وسط الغبار وشظايا الزجاج
نسيم س. زويني | نيحا، الشوف – جبل لبنان
الأشرفية، بعد 25 ثانية.
"- آلو ماما، وقع إنفجار كبير في بيروت وأنا بخير.
- ماذا؟
- وقع إنفجار كبير في بيروت وأنا بخير.
- يا إلهي! لقد سمعت للتوّ!! ماما، هل أنت أكيد أنّه لم يحصل لك شيء؟
- نعم، لهذا السبب أنا أتّصل بك. عليّ الإسراع لكي أتفقّد جيراني، أحبّك، وداعاً!".
جلست للحظة وأنا غير مصاب بأيّ خدوش، ثم تفحّصت الأبواب والنوافذ الممزّقة والمصاريع الخشبيّة الحمراء التقليديّة المبعثرة فوق أثاثي وأرضية المطبخ وسريري.
وقفت، وما زلت أشعر بحبيبات الغبار التي خدشت أذنيّ لجزء من الثانية. فتحت حقيبتي: زجاجة ماء، زجاجة كحول، علبة مناديل، وأقنعة وقفازات من اللاتكس. ألقيت نظرة من الشرفة، كان المنظر مروّعاً.
ركضت لأتفقّد جارتي ذات الثمانين عاماً، إنها بخير.
هرعت عبر السلالم ووصلت إلى الشارع. لم يكن سوى شارع...
ركضت نحو مبناي، أمسكت خوذة دراجتي وهكذا بدأت الرحلة.
في فترة معيّنة، كان من المفترض أن أسير في أحد الشوارع، ولكن بدلاً من ذلك كنت أسير فوق شظايا الزجاج، وأغصان الأشجار، والألومنيوم المكسور، والأحذية، والوسائد، والأبواب الممزّقة، وحتّى أجهزة إستقبال الأقمار الصناعية... كان حشدٌ من الناس يصرخون كالزومبي وهم يشقّون طريقهم وسط هذه الفوضى. وبينما كانت عيناي تعجزان عن تصديق ما كنت أراه حينها، كانت كلّ الأضرار، والدخان، والدمّ، وأصوات صراخ الأطفال وكبار السنّ الذين يئنّون بشدّة، أكثر حدّة من أصوات صفّارات الإنذار التي كانت تدوّي في ذلك اليوم. أتذكّر كلّ الوجوه التي رأيتها، وما زلت أسمع أولئك الذين طلبوا مساعدتي، وما زلت أتذكّر نوع جروح كلّ واحد منهم وحجمها. أتذكّر كل أولئك الذين لديهم امتنان كبير بأنني لم أصب بأذى جسدي وقادر على المساعدة. ولكن في خلفيّة هذا المشهد الفوضوي، يبقى إطارٌ واحد لا يغيب عن نظري أبداً، وهو شيء لم تعرضه حتّى أكثر إنتاجات هوليوود ابتكاراً: متجر الخدمات الجنائزية المدمّر بتوابيته المكشوفة والمكسورة المتناثرة على أرض المحلّ وفي كلّ أنحاء الرصيف المجاور...
غريزتي للمساعدة دعتني إلى الركض نحو مستشفى القديس جاورجيوس، حيث افترضت أنّ جميع الجرحى سيتدفّقون إلى هناك للعلاج، حتّى أتمكّن من التبرّع بالدم والمساعدة في تهدئة الناس وتقديم الإسعافات الأوّلية في مداخل المستشفى. ساعدت في تنظيف بعض وجوه الجرحى في طريقي، وأعطيتهم المناشف للضغط على جراحهم. واصلت المشي، ولم أجد أيّ مستشفى...
بعد 25 دقيقة.
كان الناس، والمصابون، والطاقم الطبّي، والأسرّة يخرجون من المستشفى بدلاً من الدخول إليها... رحت أرتجف... وقلت "هذا هو المكان حيث يأتي الناس لطلب المساعدة"، لكنّه أصبح خارج الخدمة... في تلك اللحظة، تحوّل الغبار إلى ضباب في عينيّ، وفي كلّ النواحي، وصفّارات الإنذار، وصوت الزجاج المكسور تحت أقدام الذين يركضون مذهولين، كلّ ذلك اختفى لبضع ثوان.
فجأةً، كسر صوت صراخ حادّ هذا الصمت الإفتراضي: "فليأتِ أحدكم لمساعدتي، بسرعة "دخيلكن"، فليأتِ أحدٌ لمساعدتي". نظرت يميناً ويساراً فرأيت إمرأة تسرع عائدة إلى شقّتها من شرفة طابق علوي لمبنى مجاور. أحصيت الشرفات، إنّه الطابق السابع، فبدأت صعود السلالم وأنا أدوس على أبواب خشبيّة مكسورة، قضبان من الألومنيوم، شظايا زجاجيّة وسقوف متساقطة. بينما كنت صاعداً وأنا أحسب الطوابق للوصول إلى الطابق السابع، شاهدت خمسة خطوط حمراء موازية تصعد على جدار الدرج. كان خطاً لم أكن أعرف من أيّ طابق انطلق، ومع ذلك كنت أقول لنفسي "جيّد. جيّد. أنا سعيد لأنه استطاع النجاة وخرج...".
الطابق السابع.
"سيّدتي... سيّدتي... أنا هنا يا سيّدتي". صرخت بأعلى صوتي. فأجابتني: "رجاءً تعال بسرعة، إبنتي محاصرة في الداخل، الباب أغلق بعنف وجين لا تردّ عليّ [يادلّي أنا]". وطأت على الأثاث المحطّم والقواطع والأبواب المخلوعة، متّجهاً نحو الباب المشار إليه وقلت لنفسي: "لا أريد أن أجد شخصاً تستحيل مساعدته، من فضلك ليس الآن، من فضلك ليس بعد".
"جين، إذا كنت تسمعينني إبتعدي عن الباب". أمسكت المقبض وبدأت أركل الباب حتى فتحته. إلى يميني، كانت فتاة ذات شعر بني فاتح في العشرينات من عمرها مستلقية على ظهرها. كان وجهها شاحباً وعيناها مغمضتين، لا دماء على جسمها، وركبتها كانت مخلوعة، وورائي أمٌ تصرخ ظناً منها أنّ إبنتها لم تعد معها بعد الآن. لقد لمست معصم جين، النبض موجود. "لا تقلقي يا سيّدتي، لقد أغمي عليها فقط بسبب الصدمة، إنّها لا تزال معنا". قمت برشّ بعض الكحول على منشفة، وجعلتها تشمّها، ثم صرخت بإسمها حتى فتحت عينيها. لقد نسيتُ نهاية العالم وعلقتُ في تلك اللحظة. سألتها: ما اسمك؟ قالت "جينيفر". أدرت وجهي نحو الأم وقلت: "هل ترين؟ إنّها بخير، إنّها بطلة!". ثم نظرت إلى جين التي كانت لا تزال تمسك منشفة الكحول وتشمّها، وقمت بتثبيت رقبتها، ونظرت في عينيها وقلت لها: "أنا أبتسم لك الآن إبتسامة عريضة جداً، إنها تحت القناع، لكن ثقي بي، إنها عريضة جداً أيّتها البطلة!". لم أستطع تحريكها، إذ كنت قلقاً للغاية بشأن ركبتها المخلوعة، ومع ذلك كنت قلقاً أكثر حول كيف سيحملونها فوق الدرج المكسور لمسافة سبعة طوابق، وفوق كل ذلك إنتابني قلق مروّعٌ: أيّ مستشفى ستستقبلها؟ لم يستغرق الأمر سوى بضع لحظات من الضغط على يدها لمساعدتها على البقاء مستيقظة، حتى اندفع أحد أقارب العائلة عبر الباب. عندها، شعرت بالاطمئنان أنهم ليسوا بمفردهم ويمكنني التوجّه نحو مهمّتي التالية في زاوية لا اعرفها...
لقد رويت هذه القصّة لأصدقائي وعائلتي مرّات لا تحصى، وتقريباً لأيّ شخص سألني عن تلك اللحظات أثناء تطوّعي في المنطقة المتضرّرة. كنت أترك الشوارع فقط لآخذ قسطاً من الراحة في الليل، وقلّما كنت أنتظر مكافأة.
____________________________________________________
بيروت في عين عيون متطوّع
غدي بشناق | جبل لبنان
من أرض السياحة والحبّ والحياة إلى أرض الخراب والأنقاض والدموع. أصبحت بيروت أرضاً قاحلة بعد انفجار الرابع من آب الذي حطّم كلّ نافذة وباب، وكلّ أمل على بعد أميال من منطقة الإنفجار. يؤلمني، كمتطوّع منذ اليوم الأوّل، أن أرى قطعة من قلبي تنزف دماء بريئة من جرّاء الفساد وإهمال الحكومة. لقد رأيت، وأنا قادم من الجبل لمساعدة جميع أخوتي اللبنانيين، جانباً من لبنان لم أره منذ فترة، بالإضافة إلى القلوب المحطّمة، والحاجة الهائلة إلى المال والتصليحات، ودموع المصابين نفسياً وجسدياً؛ لقد رأيت الأمل والوحدة في أمّة كانت تخشى الحرب الأهليّة. كان الناس، ولا يزالون، يلملمون بيروت قطعةً قطعة، ويزيلون التراب عن ما كان إقتصاداً في ما مضى، على أمل بناء دولة خالية من الدين وخالية من الفساد، لجميع أبنائها الوطنيين.
دعونا نبنِ وطناً جديداً للأشخاص الذين يستحقّون هذا البلد ولم يدمّروه.
دعونا نحرّر عقولنا ممّا قادنا إلى هنا.
دعونا نبنِ دولة خالية من العوائق والقيود.
دعونا نذرف دموع الفرح والأمل في بلد يحبّ فيه الناس الحياة.
____________________________________________________
... ويبقى الأمل
ساندرا شهيّب | جبل لبنان
منذ بضعة أشهر، كرّست مجموعة قصائدي الإنجليزية الإنكليزية في الجامعة للمدينة بيروت. كتبت قصائد تصف تفاصيلها. المباني القديمة والجديدة. الشوارع وروح الشعر في كل زاوية. كفتاة تعيش في الجبل، كان لديّ دائماً شغفٌ بتلك المدينة. خطّة لحياة ومسيرة مستقبليّة في بيروت. والآن، إذا كان عليّ أن أصف الأسبوع الأوّل بعد الإنفجار، فسأقول أنّه كان متطابقاً. أستيقظ. أستقلّ الحافلة. أذهب إلى بيروت. ننقسم إلى مجموعات. نقدّم المساعدة والمعونة. نعود إلى المنزل. كانت مجموعة كبيرة جداً من عاليه تتوجّه إلى بيروت يومياً للمساعدة. وكنّا نأخذ في اعتبارنا احتياطات إحتياطات معيّنة، إذ كانت الأقنعة والمعقّمات اليدويّة موجودة طوال الوقت. يجب أن أعترف بأنّني لم أركّز في ذلك الوقت، كلّ ما أردت فعله هو المساعدة. لقد عرضت مهاراتي في الإسعافات الأوليّة بصفتي طالبة تمريض. ساعدت في رفع الأبواب والنوافذ المكسورة. في تنظيف بقع الدم عن الأسرّة وعن الأرض. في الأسبوع الأوّل، فقدت الإحساس بكل شيء، وكلّ ما سمعته هو صوت الزجاج المحطّم الذي يتمّ تنظيفه. بعد ذلك بأيام، فهمت أخيراً. لقد أضحت بيروت بكلّ ذكرياتنا وأحلامنا محطّمة. لا أعتقد أنّ الكلمات قادرة على وصف هذا الشعور المريع. لكن، بقوّة الشباب، يبقى لدينا الأمل أن بأن نبني بيروت من جديد.
____________________________________________________
أهكذا تعامل بيروت؟
دجى مكحّل | رياق - البقاع
بيروت صرخة البحر الأولى كما عبّر يوماً الشاعر محمود درويش، وستّ الدنيا كما ترنّم نزار قباني العظيم... بيروت الحضارة والفن والمدنيّة... لقد صرَخَت بيروت من الوجع، وما أصعب صراخ المدن العظيمة. أهكذا تعامل بيروت؟ أهكذا تعامل الحواضر العظيمة؟ "ما قدرت شوف الّلي صار فيكي يا بيروت، ببيوتِك، بناسِك، بشوارعِك، بطرقاتك بكل شي صرلك. ما قدرت ما كون تاني يوم الحادثة تحت عم قدّم كل طاقتي ومجهودي بأيّ نوع من المساعدة، مع إنّو طاقتي تِلْفِت بس شِفتك مدمّرة يا بيروت، بس استرجعتها لأنّو آمنت إنّو ما حدا راح يلملم خرابك إلّا شبابك، وأهلك، وكل حدا عندو ذكرى حلوة بشوارعك، هوّي اللي قادر يرجّعك للحياة. وفعلاً قدرنا على مدّة أسبوع، كمتطوّعين نبلسم بعض من الجراح، ونمسح دمعِك يا بيروت، ونلملم الخراب، وننظِّف طرقاتك بالمكنسة والمجرود، اللّي كان كلّ شبّ وصبيّة حاملينن على أكتافهم ورايحين يشيلو هل بشاعة هالبشاعة اللّي شوّهتك يا بيروت الحلوة، لأنّو ما بيلبقلِك إلّا الأحلى.
ما حدا بيقدر يغتالك يا بيروت ولا يمحي البسمة عنّك. يمكن قدروا بيوم أو يومين، بس رح ترجعي متل زمان... كرمال الحضارة، كرمال البحر الأزرق، كرمال الناس اللّي تحضّروا، وتعلّموا الفن بهالمدينة العظيمة".
سامحينا يا بيروت... سامحينا.
____________________________________________________
مأساة لا تُوصف
رامونا خوري | جزين - الجنوب
إنها واحدة من تلك الذكريات، التي تعلق وتصبح كابوساً. دقائق، ثوان، تمكّنت من أن يكون لها تأثير أكبر من سنوات. في يوم كان يبدو طبيعياً، كنت في مستودع الجمعية التي أعمل فيها. كنت متحمسة جداً. هذا الشعور كلّه تبخّر في لحظة، وتحوّل إلى غياب تام للمعرفة. هل هو زلزال؟ إنفجار؟ زوبعة؟. هرولت على الفور على درجات المستودع اللامتناهية للعثور على زملائي، ولمعرفة ما إذا كانت الحياة لا تزال تسود في هذه الفوضى التي لا توصف. كانت نبضات القلب المليئة بالقلق مسموعة في الأذن المجرّدة. إنها مأساة، إنّه حجاب أسود خيّم بظلمته على الأمل. كان لا بدّ من أن أتصل بعائلتي، أصدقائي، أحبّائي لأرى إن ما إذا كانوا لا يزالون على قيد الحياة... على الرغم من إضطرابي. في اليوم التالي، قمت بجولة معتادة سيراً على الأقدام في أزقّة بيروت. كنت أبحث، ويدي على قلبي، عن الأطفال الصغار الذين ليس لديهم أمّ سوى الشارع...
____________________________________________________
أكثر من مجرّد عمل وواجب
دارين درويش | طرابلس - الشمال
عند وقوع الإنفجار، وللوهلة الأولى تملّكنا جميعاً شعور بالخوف، بعده مباشرةً شعور بالإندفاع للمساعدة والتوجّه المباشر إلى موقع الإنفجار. على الرغم من الوضع الصحّي السيىء، تولّد شعور بالمسؤولية لدى الجميع، وأنا أحدهم.
يمكن القول أنّ الحالة النفسيّة التي طرأت علينا جميعاً عقب الإنفجار دفعتنا إلى التفكير السلبي كما أنّها أثّرت على الجميع، ولا سيّما أهالي بيروت المحيطين بالمرفأ -- "البور".
لكن عند الولوج إلى المناطق المتضرّرة، يعجز لسانك عن وصف أو استيعاب حجم الخسائر البشريّة والماديّة !. ما يدهشك أنّه، وعلى الرغم من المآسي الحاضرة أمامك، ترى الأهالي يساعدون الذين تضرّروا أكثر منهم.
كل هذا يدفعك إلى نسيان الخوف وتعلّم القوّة من أهالي بيروت، حيث ترى شعورك يتحرّر من كونه مجرّد عمل وواجب ليصبح علاقة أخوّة وانتماء.
____________________________________________________
بيروت مدينتي
حسن شمعون | النبطية - الجنوب
لقد كانت مأساة للبنان. لم أكن شخصاً يحبّ الذهاب إلى بيروت، ولكن بعدما لمست الروحيّة التي يتعامل بها الناس هناك، وقعت في حبّ هذه المدينة. كنا نعمل مع غرباء من مختلف الأديان، والخلفيّات والبلدات كعائلة واحدة. لم أشعر يوماً بالأمان في مدينةٍ تعرّضت للتفجير كما شعرت في بيروت، وكلّ ذلك بسبب الشعب والوحدة التي تمخّضت عن هذه الكارثة المأساوية. ورغم أنّني من النبطيّة، لكنّني بتّ أشعر الآن أنّ بيروت هي مدينتي.
____________________________________________________
بيروت... مولودة بملاءةٍ من ردمٍ
بيرلا الراعي | العقيبة - جبل لبنان
بيروت التي رأتها عيناي ليست ستّ الدنيا. الستُّ عادت طفلةً في عالم الطفولة البائسة. فتغيّرت معالمها من عجوز صلبة ومتماسكة وصامدة إلى طفلة هشّة ورعناء ومتضعضعة. شحُب وجهها، خفتت ضحكتها، ونُزعت براءتها. بعد أن كانت ستٌ حاضنة للآلاف، غدت طفلةً بلا مأوى تبكي دماً بين الركام. أهكذا تكون الطفولة؟ فالذي يَلِد طفلةً مسلوبة الحياة، سيراها حتمًا حتماً ناقمة وثائرة عليه يوماً. لكنّ بيروت لم تُترك. فشاباتها وشبابها أزالوا عنها الرماد، ولا يزالون يحاولون جعل ولادتها التعيسة قيامةً وتجدداً لوطنهم. وستكبر على أياديهم، وينبض قلبها ثورةً. يبقى على "الطفلة بيروت" أن تتعلّم أهميّة المحاسبة كي تصبح ستاً لا تُهزم يومًا.
____________________________________________________
بصيص أمل
فاطمة نعيم | الجنوب
الخامس من آب، أيّ اليوم الذي تلا كارثة إنفجار المرفأ، لم تستيقظ العاصمة بيروت على صوت فيروز، إنّما على آهات الأمهات ونحيب الأباء. أمّا أنا فقد استيقظتُ على ألم في صدري، صوتٍ في داخلي يردد: "كفّي عن البكاء، وانهضي علّك تجدين سبيلاً للمساعدة."
توجّهتُ إلى ساحة الشهداء، حيث تجمّع عددٌ من الشبان والشابات ليقدّم كلّ واحد منهم المساعدة بحسب قدراته. توزّعنا على ثلاث مجموعات، المجموعة الأولى مهمّتها إزالة الردم والأنقاض، الثانية توزّع مواد غذائية، أما الثالثة فهي تضمّ مسعفين ومسعفات. إنضممت إلى المجموعة الأولى، وانتظرت دوري للحصول على مكنسة وقفّازات كتلك التي تستخدم في عمليات ورش البناء، وخوذة تحمي الرأس. لكنّ انتظاري طال، فالمعدّات لا تكفي الجميع، لذا حاولنا جاهدين البحث عن من يتبرّع بمعدّات أخرى. بعد ثلاث ساعات من الإنتظار، وصلت سيارة محمّلة بالمعدّات وتمكّنت من الحصول على المعدات التي سأستعملها.
توجّهتُ مع مجموعة من الفتيات، إلى منطقة الجعيتاوي وعندما وصلنا ذهلتُ بالمشهد، وتوقّف الكون لبرهة. فهل حقاً هي نفسها تلك المدينة التي كانت تضجّ بالحفلات؟ وهل هم أنفسهم الأشخاص التي لم تفارق البسمة وجوههم في الأيام الماضية؟ من أين سنبدأ وكيف سننتهي؟ الألم كبير والخراب أكبر. بدأنا تنظيف الشارع المليء بالزجاج وأشياء أخرى تساقطت من المنازل، ككتاب لشاب عشريني ربّما كان يقرأه قبل الإنفجار بدقيقتين، ولعبة لطفلة صغيرة أجهل مصيرها الآن، ودواء ربّما لامرأة مسنّة، ليس في استطاعتها شراء غيره.
بعد وقت من العمل، حان وقت تسليم الأغراض ليأخذها شخص آخر لم يحالفه الحظّ بتقديم المساعدة بعد. غادرتُ والدموع تنساب على خدّي. فكلّ من زار بيروت يعرف أنّها عروسة لبنان الجميلة، وسيّدة لا يصيبها الكبر مهما عصفت الأيام بها، أمّا الآن فالعروسة فقدت زوجها والسيدة بدأت تشيب...
لكن، في كل كارثة يبقى بصيص من أمل. هذا الأمل الذي رأيتُه بعيون الشاب الذي قدّم لنا الطعام، والمارّين في السيارات الذين لم يبخلوا علينا بالماء أو على الأقل بكلمة جميلة تقدّر تعبنا...
____________________________________________________
شيء ما تدمّر في قلوبنا
غنوة ملحم | بترومين، الكورة - الشمال
إسمي غنوة ملحم، عمري 19 سنة، ثالث سنة جامعة. أدرس العلاج الفيزيائي، وأسكن في بترومين - الكورة.
بتاريخ 4 آب، كنت موجودة في جبيل عند الساعة 6:08. سمعت صوتين قوييّن، إعتقدت أنّ شيئاً ما حدث في جبيل. في غضون 5 دقائق، بدأ والديّ الإتصال بي كي أعود الى البيت فوراً. وبقي الصوتان مجهولان لا أعرف سببهما أو مصدرهما. بدأت الأخبار والإشاعات تتناقل حتى وصلت إلى البيت، ورأيت مدى قوّة الإنفجار. عندها وقفت مذهولاً وقلت ما هذه الكارثة. وفي اليوم التالي، بعد مشاهدة كل الدمار على مواقع التواصل الإجتماعي، أحسست بشيء غريب في داخلي يشبه الغصّة. إنني كنت دائماً أشارك في نشاطات رياضيّة إنسانيّة (مثل كرة السلّة على الكراسي المتحركة)، أو في أيّ مساعدات يحتاجها الناس. لكن هذه المرّة كانت القصة مختلفة، إذ شعرت أنّ هناك واجباً وطنياً يناديني ويضاهي بأهميّته الواجب الإنساني. إتصلت بأبي لأخبره عن مدى رغبتي في النزول إلى بيروت. كان متردّداً أولاً بسبب المسافة والوضع الصحّي، لكنه وافق في النهاية واشترى لي قفّازات سميكة.
في صباح اليوم التالي، إستيقظت عند الخامسة فجراً، جهّزت نفسي، وذهبت وتوجّهت الى إلى البترون. من هناك، ذهبنا إنطلقت ضمن مجموعة واتّجهنا نحو بيروت.
عندما بدأنا الغوص في المناطق المتضرّرة كنت أكتشف كميّة الأضرار، وأشعر بغصّة تزداد كلما تقدّمنا نحو المناطق المنكوبة.
وصلت إلى مستشفى الجعيتاوي، مصدومة بما أراه. رأيت المكان، حيث من المفترض أن يشعر الإنسان بالطمأنينة لتوفّر الخدمات التي تساعد في شفائه، مدمّراً. هناك دماء على الدرج، وعلى أسرّة المرضى، فيما الزجاج في كل مكان، على أسرّة المرضى. قسم الطوارئ حيث تُستقبل الحالات لكي تعالج بسرعة، أو حيث يتمّ إدخالها المستشفى للمعالجة، مدمّر.
بدأت عملية التنظيف. عملنا شباناً و شابات يداً واحدة. كنا نصعد إلى جميع الطوابق وندخل إلى كل الغرف. كنا نشعر بكميّة الرعب التي كانت موجودة لحظة الإنفجار.
بعد ذلك، ذهبت إلى مركز "Appui" في الأشرفية. وهو عبارة عن مركز للعلاج الفيزيائي orthopédagogie / orthophoniste / dorms. إستوقفني شيء لا يسعني نسيانه. كان هناك مكتب مليء بالزجاج، وبسبب قوّة ضغط الإنفجار علقت قطع الزجاج في الحائط المقابل، مخلّفةً فجوات صغيرة فيه. كنت أتخيّل لو كان هناك شخص أو ولد صغير في هذا المكان، لكان الزجاج قد مزّقه تمزيقاً.
كانت كل غرف الـ dorms محطّمة ومدمّرة....
عندما أخذت استراحة قررت أن أستريح، وجدت كميّة من غبار الزجاج على جبيني، فتذكرت أنّ الزجاج شقّ أجسام أجساد الناس بلا رحمة.
إستوقفتني في الأحياء، قصص الناس. كنت أرى أشخاصاً جرحى بيوتهم محطّمة، يجلسون على الكراسي خارج منازلهم. ورأيت أيضاً إمرأة فقدت عائلتها ومنزلها وتحمل فقط كيساً هو كل ما باتت تملكه، وتتجه إلى منزل أختها.
مرّ كلّ ذلك، وكانت دموعي كانت تخونني.
عندما كنت أتوجّه إلى بيروت، لم أفكّر ببعد المسافة، وما إذا كانت الطريق خطيرة، علماً أنّني عدت في الباص ولم أشعر بالخوف. إنّ المسافة في الوطن نفسه هي واحدة، كلّنا نتوحّد في كل لبنان عندما يمسّ الوطن خطر ما.
لقد شاءت الظروف أن لا تسمح بنزولي إلى بيروت كثيراً. لكنني لم أستسلم، فقد شاركت في توضيب المساعدات للعاصمة، وقمت أيضاً في الجامعة بتوضيب مساعدات إلى المنكوبين. لم يكن معظمنا موجوداً في لحظة الإنفجار، ولكننا شعرنا بشيء ما تدمّر في قلوبنا. صوت الإنفجار، صوت التكسير، صوت صراخ الأمّهات والأولاد، دمعة ذوي الشهداء، كلها أشياء لن تُنسى.
كنت أرغب سابقاً في مغادرة لبنان. ولكن بعد نزولي إلى بيروت ومشاركتي في إعادة الروح إليها، ورؤيتي الشباب من كل لبنان، من شماله إلى جنوبه، وصولاً إلى بقاعه، غيّرت رأيي... هؤلاء الشباب، هم الذين لم يشاركوا في أيّ إنتخابات سابقة لبناء الدولة القديمة. الذين شاركوا في التنظيف هم الأغلبية. وهم كانوا الدولة في غيابها. والآن، أنا أرى بصيص أمل للبنان مصدره كل هؤلاء الشبّان والشابات.
رحم الله الشهداء.
____________________________________________________
حتى تنهض بيروت مجدداً
ديما قاسم | القبّة، طرابلس - الشمال
إسمي ديما قاسم. عمري ١٩ عاماً. ، وأنا طالبة في الجامعة اللبنانية، إدارة أعمال، سنة أولى، من القبة - طرابلس. أنا تطوّعت بجمعية في جمعية "Shift" ضمن حملة "معاً لبيروت"، للتخفيف من آثار الإنفجار المرعب الذي حصل في مرفأ بيروت، والذي سبّب خسائر هائلة في المنطقة وأثّرعلى كل الوطن.
منذ أن علمت في هذه الحملة، راودني إحساس رهيب لجهة تقديم المساعدة في أيّ نوع من المجالات. خضعت للتجربة في اليوم الأوّل، ومنذ ذلك اليوم شعرت وكأنّ وجودي مهمّ ومشاركتي أهمّ، خصوصاً عندما قال لي أحد المتضرّرين "نسيّتوني همّي... نحنا منكبر فيكن وإنتو فخر لبنان"، زاد حماسي أكثر وشجّعني أكثر على المشاركة. حديثي اليومي أصبح بيروت والإنفجار والعائلة المتضرّرة... ، ممّا شجّع أخواتي أخوتي على المشاركة معي، وهنا بدأت رحلة التطوّع العائليّة.
للمرّة الأولى في حياتي أشارك في عمل تطوّعي، فهذه التجربة علّمتني الكثير وزادتني خبرة ومعرفة (كالتنظيم والقيادة وروح التعاون في المجتمع). أنا الآن فخورة جداً بنفسي من ناحية تعليم أخواتي أخوتي الصغار وتشجيعهم على المشاركة في أعمال كهذه. وأشكر جمعية "Shift" على دعمها المعنوي ومساهمتها في تطويري نحو الأفضل. أنا مثابرة من المثابرين، وسوف أكمل هذه المبادرة لكي تنهض بيروت من جديد، علماً أنني سأتقن كل الأشياء التي يمكن أن تفيد الأحياء المتضرّرة.
____________________________________________________
من قلبي سلام لبيروت
مرح عطية | صيدا - الجنوب
إهتزّ البيت وارتجف قلبي خوفاً. هرعت نحو التلفاز وكلّ ظني أنّه زلزال هزّنا بقوّة. على التلفازهناك كانت المفاجأة، معظم المحطات الفضائية تنقل خبراً واحداً، " إنفجار ضخم يهزّ العاصمة اللبنانية بيروت". ظهرت التفاصيل، الإنفجار في مرفأ بيروت، خيّل إليّ أنّ وحشاً يبتلع عروس لبنان ويعنّفها حرقاً، ويرشّ الحزن والمأساة في قلوبنا التي انفطرت عليك يا بيروت.
بيروت المدينة التي طالما كانت تتلألأ زهواً، وهي تسكن بين البحر النائم على شاطئها والجبل المتكئة عليه.
في اليوم التالي، ومع سخونة الأحداث، تلقّيت رسالة دعوة للإنضمام إلى مبادرة شبابيّة في مركز "الجنى" في منطقتي، وادي الزينة. أوضح الإعلان أنّ المبادرة مدعومة من منظمة "اليونيسف" للملمة الجراح وتنظيف أراضي بيروت المنكوبة من جرّاء تلك الفاجعة.
إنضممت إلى المبادرة مع العديد من الشباب والشابات. ذهبنا إلى بيروت، وحين وصلنا إلى الأحياء، أدركت الفارق بين صورة تشاهدها على التلفاز، وواقع تشاهده بعينيك. فطرقات الأحياء الأكثر تأثراً بالتفجير كالجميزة والكرنتينا ومار مخايل، يصعب وصفها. لقد أصبحت مليئة بالرماد الأسود الداكن، وكأنّ الأرض ارتدت السواد مواساة للحبيبة بيروت. رأيت بيوتاً سقطت جدرانها وأطلّت على المجهول. الزجاج مبعثر في كل الأرجاء، تقاطعت في سمعي صرخات الأمّهات في التلفاز مع أنينهن في بيوتهن حين دخلنا إليها، فسنوات من التعب، ذهبت بلحظة.
ولعلّ وجودنا كمتطوّعين في هذه المبادرة، ومبادرات أخرى من مختلف المناطق والأديان والطوائف، ساهم في بلسمة جروح بيروت وأهلها. ففي بيت فقد أهله مأواهم، كانت وجوه الشباب بينهم بمثابة مأوى، ولو بشكل معنوي. فقد شعرت تلك الأسر أنها ليست وحدها، وأنّ فريقاً كفريقنا المكوّن من فلسطينيين، ولبنانيين، وسوريين، نظّف الشوارع والبيوت، وأزال الركام، ومسح دمعة أمّ تمنّت لو أنها تستطيع أن تعانقنا واحداً واحداً، كما قالت.
ترك المشهد أثراً عميقاً في داخلي، وكأنّ شيئاً منّي قد استشهد. ورغم كلّ الأحداث المؤلمة بقينا يداً واحدة، سنداً لبعضنا البعض؛ فيما أبواب بيوتنا مشرّعة لأهالي العاصمة.
آه يا بيروت، أنا إبنة مخيّم. عشت لاجئة فلسطينيّة في سوريا، وجئت إلى لبنان هرباً من الحرب هناك. وما حلّ بك يا بيروت فاجعة كأنّها الحرب.. وأنتِ يا بيروت.. آه يا بيروت.. أنتِ المعتادة على الحبّ كما الحرب.. كم أوجعتنا يا بيروت.. كم نحبّك يا بيروت..
من قلبي سلام لبيروت.
____________________________________________________
إعادة بيروت إلى ما كانت عليه
أنطوني فغالي | الأشرفية - بيروت
5 آب، 2020، اليوم الأوّل بعد ليلة سوداء لم نرى نرَ فيها طعم النوم. اليوم الأول بعد الخراب الذي أصاب مدينة بيروت، مسبّباً أضراراً كبيرة في العاصمة. لم أتردد لحظة بالنزول إلى شارعي مار مخايل والجميزة للمساعدة، على الرغم من أنّني أسكن في منطقة الأشرفية، وبيتي تضرّر كثيراً.
لم تكن مار مخايل والجميزة كالمعتاد، بل كانت تعيسة، كانت بالفعل منطقة منكوبة. السيارات مدمّرة، الزجاج المطحون يملأ كل الشوارع، والأبنية تشبه أبنية الحرب المجرّدة من النوافذ والشرفات. كنت أتساءل عما إذا كانت هذه المنطقة ستعود إلى ما كانت عليه قبل النكبة، وتعود الحياة الليليّة إليها. لم نكن نملك أي آلة تنظيف للمساعدة، لذا كان توزيع المواد الغذائيّة الوسيلة الأولى التي ساعدنا فيها أهالي المنطقة، إلى أن تعرّفنا على عدد من الشبان والشابات، الذين تعرّفوا أيضاً على بعضهم البعض من خلال الشارع، وتوجّهنا سويّاً إلى بيت في آخر منطقة الجعيتاوي.
"عن جدّ إنتو عم تساعدوا بلا مقابل؟"، كان السؤال الأوّل الذي طرحه صاحب المنزل المدمّر، فقد تفاجأ بنا، وراح يخبّر الجيران عنّا كشباب وشابات جئنا للمساعدة.
"حكيتو بعض وجبتو مكانس وجيتو؟".
"لا يا عمّ، نحنا ما منعرف بعض، كل حدا واحد منّا من منطقة، ومش كلنا من بيروت".
وفعلاً، لم نتعرّف على بعضنا البعض سوى من بضع دقائق، فالشباب والشابات الذين كانوا حاضرين على الأرض، كانوا فعلاً من كل المناطق ومن كل الطوائف، يعملون بجهد كبير لإعادة بيروت إلى ما كانت عليه من قبل. إنّها المرّة الأولى التي أرى فيها مدينتي بهذا الشكل. خراب ودمار في كل أحياء بيروت. إنّه الإحساس الذي دفعنا لاستكمال المساعدة على مدار الأسبوع . الشعب هو الدولة، إنّها الدولة التي يتمنّاها كل مواطن، أمّا الجملة التي كنت أسمعها منذ صغري وحتى اليوم: "شو رح يطلع من جيل كسلان، وجّو بوجّ التلفون كل النهار؟". هذا الجيل يعمّر بيروت اليوم، وسيبقى يعمّر حتى تصبح بيروت فعلاً سويسرا الشرق.