قدِمتُ إلى بيروت منذ سنتين تقريباً. عندما انعدمت خيارات الحدّ الأدنى من الحياة في بلدي سوريا، ملاذي الوحيد والممكن هو بيروت.
قبل مجيئي بسنوات، كنتُ أكتب في صحف «السفير» و«الحياة» و«المستقبل»، وكلُّها تصدر في بيروت. ذاكرتي السابقة عن المدينة هي أوراق الصحافة وكلمات الأدب. أما الآن فقد أُضيفت إلى هذه الذاكرة الأدبية، وهي نسبية وفقيرة ربما، وتبقى داخل المخيلة، ذاكرة أخرى تتركز في وقائع العيش اليومي، وتتغذَّى من شؤون وأحوال جديدة عليّ. بالنسبة إليَّ أصبح مهماً موضوع الزواج المدني في لبنان، وغلاء إيجارات البيوت، ومشكلة المياه والكهرباء، إضافة إلى معالجة أزمة النفايات، وغيرها الكثير من الشؤون العامة والقضايا اللبنانية الملّحة.
ربما تختلف تجربة الشاعر عن تجربة شخص عادي إزاء أزمة اللجوء السوري الصعبة، غير أنَّ العيش في مدينة صغيرة وحيوية ومتوترة، ومشاركة أصدقاء جدد تجاربهم وأحلامهم، يبقيان تجربة صعبة ومغرية في آن واحد.
***
خلال سنوات الوجود العسكري السوري في لبنان (1975-1990)، لم يتعرف اللبنانيون إلى عموم السوريين بالشكل الكافي والصحيح. الفئة الغالبة من السوريين كانت محتجبة خلف قناع النظام الأمني السوري، ذاك أن سوريا كانت دولة مغلقة على الداخل، مفتوحة على الخارج. لقد كانت هناك فئتان سوريتان متناقضتان أشدَّ التناقض تعيشان على الأرض اللبنانية، من دون غيرهما. كان هنالك عالمان فقط، الأول هو عالم الجنود السوريين الذين كانوا تابعين لنظام أمني قاسٍ ومخيف، والثاني هو عالم فقراء سوريا وخصوصاً العمال والمياومين الهاربين من الفقر في بلدهم، والباحثين عن فرصة عمل في لبنان. هذه هي تقريباً الذاكرة الوحيدة التي خلَّفتها سنوات الوجود السوري الطويلة في لبنان: ذاكرة العسكر القاتمة بما تعنيه من تعسّف وتجاوز للقانون، وعدم احترام للحريات، ومعها ذاكرة عمال سوريين كان وجودهم في لبنان أساساً بسبب النظام العسكري والشمولي في بلدهم، والذي سيطر بنحو سلبي على مظاهر الحياة كافة، وخصوصاً الاقتصاد في ظل شحّ فرص العمل؛ مما حرمهم من فرصة عيش لائقة في بلدهم.
كان التصدير السوري، إذا جاز التعبير، مزدوجاً ومتناقضاً. فمن جهة ثمة صورة الجندي السوري، ومن جهة أخرى ثمة مظهر العامل الفقير. لقد جرى اختصار سوريا والسوريين في هاتين الفئتين فقط، وعلى هذا النحو تشكلت ذاكرة اللبنانيين عن السوريين قبل ربيع عام 2011.
أما الآن فقد وجد اللبنانيون نمطاً آخر من السوريين الذين جاؤوا إلى لبنان بدفعات كبيرة هرباً من الحرب والخوف والدمار. مع مرور الوقت استقر الكثير منهم في مختلف المدن والبلدات اللبنانية. تغير نمط التعامل السوري واللبناني، فالأول لم يأت كي يفرض سيطرته على أحد، بل جاء طلباً للحماية والأمن، والثاني وجد السوري المختلف عن الصورة القديمة التي كانت في ذهنه قبل انطلاق الثورة السورية.
***
السوريون الجدد الذين باتوا يقيمون في لبنان إلى أجل غير معلوم، ومعظمهم من الفئات الشابة، يقومون بتنقية الذاكرة المشتركة للشعبين السوري واللبناني. نمط الحياة الجديد، وضرورات العيش المشترك، على الرغم من صعوبة التنافس على الموارد العامة، تجعل كفّة التصالح والانسجام هي الراجحة في نمط العلاقة التي كانت مختلة خلال سنوات الوجود السوري في لبنان. السوريون الجدد مدنيون وليسوا من خلفية عسكرية، بينهم طلاب وكتَّاب وفنانون، وبينهم كذلك عمال وتجار وأغنياء. يمكن القول إن الفئة الوسطى السورية، أو ما تبقى منها، هي التي استطاعت الصمود والبقاء في لبنان، سواء في مجال فرص إيجاد العمل، أم على صعيد صحة العلاقات اليومية الناشئة ما بين السوريين واللبنانيين.
يمكننا فهم رفض بعض اللبنانيين للنزوح السوري الكثيف خلال مدة قصيرة، اعتماداً على ذاكرتهم السابقة عن السوريين، وهي ذاكرة مشحونة بالرفض والإحساس بالمهانة بسبب سلوكيات النظام السوري في لبنان، فعدا شحّ الموارد وضغوط الحالة الاقتصادية، يلعب العامل النفسي دوراً مهماً في هذه الحالة.
على صعيد آخر، وهو الغالب، فقد اتضحت صورة أخرى للسوري النازح. إن سبب وجود السوري في لبنان الآن هو ذاته سبب رفض اللبنانيين للوجود السوري العسكري السابق. إنها لحظة فريدة بحق، حيث أنَّ الهاربين الآن من السجن السوري الكبير هم ذاتهم يشبهون في قرارة أنفسهم اللبنانيين الذين ذهب كتَّاب وصحافيون منهم ضحايا للنظام السوري. لقد التقى الحق الهارب من الجحيم (أي السوريين) مع الصورة النمطية السابقة عنهم، وهم الآن في طور جديد من تقديم الصورة الحقيقية عن أنفسهم، وليس هذا بالأمر السهل.
***
مع ذلك، وبمرور الوقت، ينشأ نوع من الاعتياد على ما كنا نظنه في البداية غريباً ومؤقتاً، أو غير مقبول ولا يمكن تحمّل شروطه. أحياناً يحمل الزمن بذرة الفكرة الصحيحة. ومرة أخرى تعود الذاكرة كي تقوم بفعلها الثمين والحيوي والمثمر، لكن هذه المرة عبر النظر إلى خلف الصورة السوداء، إلى ذاكرة يكون عمادها المستقبل الذي يكفل للجميع فرص الحياة الكريمة.
الكفاح السوري اليومي في لبنان، ومثله مثل كفاح النشطاء اللبنانيين، يقدم فرصة جديدة لعالم بلا خوف وبلا ضغائن.