بقيت في ذهني عبارات غامضة، كوقف إقتتال الأشقاء، ضرورة المحافظة على السلم الأهلي. والغريب أن ذلك الخطاب لم يبارح ذاكرتي رغم مضي حوالى أربعين سنة. ما زلت أذكر تفاصيله الدقيقة، لكنني في ما بعد وعبر كلّ هذه السنوات فهمت أن تلك العبارات ما كانت إلا تغطية لما لم نكن نجرؤ على تسميته بالاحتلال والوصاية.
لكن تلك الوصاية التي استمات النظام عبر أربعين سنة بتبريرها، بقيت بالنسبة لي عاراً لايمكن إنكاره، وحكمت علاقتي الشخصية مع لبنان.
كنت أقل السوريين تردداً على بيروت، رغم عدم مسؤوليتي كمواطن سوري، لا أملك أي تبرير لدخول سوريا في الحرب اللبنانية واللعب على نار التناقضات المشتعلة بين اللبنانيين.
وكان منظر الساسة اللبنانيين الذين يتقاطرون إلى القصر الجمهوري يزيد من شعوري بالعار. ولأنني لا أملك تعبيراً أقلّ قسوة أنكفأت على نفسي وقررت بأن بيروت ليست مدينتي المفضلة، لم أزرها عبر عقود سوى مرات قليلة، مبرراً بأن بيروت لم تعد تلك المدينة البهية التي لا يمكن لأي كاتب سوري إلا عبورها، كان شعور العار يرافقني في كل لحظة، لقد كنا طرفاً في الحرب الأهلية اللبنانية، ولم نكن صنّاع سلام بين كل الأطراف.
مضت عقود طويلة قبل خروج الجيش السوري من لبنان بعد إغتيال الحريري، وأيضاً كان مشهد هذا الخروج يشعرني بالعار، جنود مهزومون، فقراء، بينما الضباط الذين هربوا السيراميك والدخان والويسكي وكل ما يمكن تهريبه، كانت البنوك اللبنانية والعالمية تحفظ لهم أموالهم بكل إحترام، وكثيراً ما فكرت بأن هذا التاريخ الذي رافق شباب أبناء جيلي كان يغص بالمتناقضات، ولكن الشيء الخطير الذي اكتشفته مبكراً أن السياسة السورية في لبنان حالت دون أي تنسيق حتى في مشاعر التضامن بين السوريين الرافضين لتدخل بلدهم في لبنان، وبين اللبنانيين الذين لا يعرفون بأن النظام في سوريا لا يعني الشعب.
علاقة شائكة وملتبسة، رغم وضوحها الشديد، كانت تحتاج إلى الثورة السورية لتهدم الجدار الذي بني خلال أربعة عقود بين السوريين واللبنانيين، وتعيد الصورة إلى حقيقتها.
إنهار هذا الجدار في الأيام الأولى لإنهيار جدار الخوف في سوريا مع أولى التظاهرات، وبدأت تنمو رويداً رويداً فكرة شعب واحد في بلدين، لكن عكس ما كان يروّج له عبر عقود، والتي تعني بأن اللبنانيين لن يحلموا بالحرية قبل التغيير في سوريا.
إنقسم اللبنانيون بين مؤيد للثورة السورية، وبين معارض لها، وهذه هي الصورة الصحيحة الوحيدة للعلاقات منذ عام 1976 تاريخ عبور الجيش السوري إلى لبنان بموافقة دولية وعربية. تغيرت صورة السوري في أذهان اللبنانيين، من صورة المحتل إلى صورة الثائر، الهارب من البطش، اللاجئ، النازح، الحليف، العدو... ألخ.
كلّ يوم تبدو خطوط الصورة الجديدة للعلاقات بين السوريين واللبنانيين تتوضح أكثر، وتمحى خطوط الصورة القديمة، وما حدث مع اللاجئين السوريين رغم كل ألمه الشديد، كان بمثابة هدم آخر خطوط صورة السوري القديمة في ذهن اللبنانيين.
نعم مضت اربعة عقود على ذلك الصباح في مدرستي حين كنت طفلاً، والصورة لم تمحى من ذاكرتي، وأيضاً صورة حرق خيام اللاجئين، وإهانتهم في المخيمات وعلى الحدود، لن تمحى من ذهن السوريين واللاجئين خصوصاً، لكن هذه المرة هناك عنوان واضح للخصم.
الصورة واضحة جداً كما لم تكن من قبل، وهي البداية الصحيحة لبناء علاقة طبيعية بين السوريين واللبنانيين، وبعد نهاية الحرب، وولادة سوريا الجديدة الديمقراطية ستكون أكثر وضوحاً، ستتغير خارطة الحلفاء، وسيبدأ الجميع بإعادة نبش التاريخ كخطوة ضرورية للتخلص من مشاعر الندم.
لست ساذجاً للتحدث بخفة عن تاريخ أربعين عاماً، لكنه الأمل الذي يمنحني دوماً قوة التعبير، والاعتراف بأننا تقاسمنا التاريخ المشترك المليء بالألم والدموع، ويجب أن نتقاسم المستقبل بقوة التطهير لذاكرتنا المشتركة، وليس بالسكوت عما حدث، كل ما حدث لم نختره كأفراد، ولا كشعوب لهذه المنطقة، وحين نمتلك مصيرنا الذي جرى مصادرته قبل خمسين عاماً يجب أن نمتلك الشجاعة لتعريف حياتنا من جديد، إننا في مصير مشترك، وما خلفه التاريخ القريب البعيد والقريب لا يمكن للجغرافيا أن تمحوه.
نعم إنه ليس من السهل تغيير الشعور الجمعي للشعوب، لكنه في الحالة السورية – اللبنانية، يجب أن نؤمن بأنه ليس مستحيلاً، لا يمكن لنا إغلاق الأبواب في وجه التغيير المقبل، والذي لن يسامح كل من تورط في قتل لبناني أو فلسطيني او سوري، وكل من إستخدم قضية إنسانية كاللاجئين السوريين في حسابات سياسية ضيقة.
يدافع اللبناني عن السوريين في لبنان بأية صفة كانت، لأنه ببساطة يدافع عن مستقبل أولاده، ويعرف صفات الخصم الواحد الذي حوّل سوريا ولبنان إلى خراب، إحتكر تعريف الوطنية، والتاريخ والجغرافيا، وحول البلدين إلى مكبّ لنفاياته.
الشيء الأكيد الذي أعرفه الآن بأنه لن يقف مدير مدرسة ابتدائية ليبرّر الهيمنة على شعب آخر، تحت أي مسمى كان، بعد سقوط خطاب النفاق الذي كلفنا كلّ هذا الدم والألم، لن نترك أي ثقب ليمرّ منه مدير المدرسة ليجعلني مرة آخرى متهماً، كما لن يمر أي خطاب يعتبر اللاجئين أعداء يجب حرق خيامهم، وقتلهم، وإهانتهم، والإتجار في أوضاعهم المزرية.
نعم آخر خطوط اللوحة القديمة المليئة بالدم والنفاق ستمحى. وفي الصورة الجديدة، أشعر بروعة بقوة أن لا أكون أنا السوري اللبناني متهماً مرة آخرى.
* روائي وكاتب سيناريو سوري من مؤلفاته «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» و«مديح الكراهية» ومسلسل «هدوء نسبي»