على مرّ التاريخ، لطالما كان المغتربون اللبنانيون يعيشون في بلدان الإغتراب فيما حنينهم إلى الوطن لم ينقطع يوماً. في حين أن هذا الأمر لا يقتصر على السياق اللبناني، فإن ما يميز الانتشار اللبناني هو حجمه الكبير والإرث اللبناني على مرّ العصور المتمثل في إرسال بعض ألمع أبنائه وبناته إلى الخارج. قد يميل المرء إلى اعتبار ذلك بمثابة هجرة للأدمغة، ولكن هذه الظاهرة أسفرت عن مكاسب جمة: ففي الواقع استفادت البلاد من ثروتها البشرية الموجودة في الخارج من حيث التجارة والحوالات المالية والإستثمار، بالإضافة إلى رأس المال الإجتماعي والإمتداد العالمي. ففي الحقيقة، يقوم المغتربون بالإدخار والإستثمار في لبنان، ويعود ذلك إلى حد كبير إلى السرية المصرفية ومعدلات الفائدة الأعلى من المعدل الطبيعي، ويستثمرون في الأعمال والعقارات ويحولون الأموال إلى أسرهم وأصدقائهم.
لقد اعتمد النموذج المالي اللبناني منذ التسعينات، وهو الذي أدى الى الإنهيار الحالي، ليس على الاقتصاد المنتج محلياً، بل على التدفق المستمر للعملات الأجنبية المرسَلة بمعظمها من المغتربين، كأحد ركائزه. ولكن بما أبعد من التحويلات المالية، كيف يساهم المغتربون اللبنانيون في التماسك الإجتماعي والسلام والنمو في لبنان؟
مما لا شك فيه أن التحويلات المالية ومساهمتها في الإستقرار المالي وإعادة إعمار لبنان في فترة ما بعد اتفاق الطائف ساهمت في مسيرة إعادة البناء والمصالحة في البلاد. ولكن غالباً ما يتم إغفال أحد عناصر الهجرة المتمثل في "الحولات الاجتماعية". تعتمد فكرة الحولات الإجتماعية على قدرة المغتربين على تبادل الأفكار والمهارات ورأس المال الإجتماعي بين بلدهم الأصلي وبلدان إقامتهم، بما في ذلك السلام وحقوق الإنسان والديمقراطية. في حين لا يفتقر لبنان إلى القيم والمهارات والفلسفات الجيدة، فمن الممكن تحسين بعض الممارسات في إدارة الموارد العامة وحقوق الإنسان والعمليات الديمقراطية الراسخة بناءً على التجارب الأجنبية. ومن شأن نشر الأفكار والخبرات الجديدة أن يخلق "تخيلاً" اجتماعياً وسياسياً جديداً، وهو عبارة عن مجموعة من القيم والمعايير والمؤسسات والممارسات التي يمكن للمرء من خلالها تصور مجتمعه والعقد الإجتماعي والحياة العامة. لذلك يعزز هذا "التخيل" الشعور بالإنتماء والهدف المشترك، والمواطنة في نهاية المطاف.
خلال الأوقات العصيبة التي يمر بها لبنان حالياً، برز بشكل واضح المستوى المرتفع للطاقة والتعبئة لدى المغتربين. بينما هناك اعتبار تاريخي بعدم قدرة المغتربين على إحداث تغيير في الإنقسامات الطائفية في الوطن، وفي الواقع داخل السياسات والجمعيات في ما بينهم، فقد أحدثت الحركات الإحتجاجية الأخيرة منذ تشرين الأول 2019 تغييراً هيكلياً في نظرة المغتربين إلى السياسة في الوطن، وهي تتماشى إلى حد كبير مع التعبئة الحاصلة في الشوارع اللبنانية. وهكذا برزت حركة عالمية تحت إسم "مغتربين مجتمعين". لقد توحد هؤلاء في حدود الآلاف في المدن العالمية الكبرى تضامناً مع أصدقائهم وأسرهم في الوطن، ورفعوا صوتهم ضد الفساد وسوء الحوكمة والظلم. كما عبروا عن احتجاجاتهم ونظموا حملات لجمع التبرعات والهبات، وأطلقوا حملة لتشجيع أكبر عدد ممكن من المغتربين على العودة إلى الوطن لقضاء عطلة الميلاد، وأعادوا تنشيط الجمعيات المهنية (مثل جمعية "لايف" وهي تضم اللبنانيين العاملين في القطاع المالي عالمياً)، وأطلقوا مبادرات و جمعيات جديدة خارج نطاق التقسيمات الطائفية والسياسية في البلدان التي يقيمون فيها مثل Impact Lebanon في بريطانيا وغيرها. هذه المبادرات التضامنية ترفع الروح المعنوية في الوطن وتخلق شعوراً بالمواطنة المشتركة العابرة للحدود الوطنية وخارجها.
في حين يحتاج لبنان إلى السير قدماً في مسار التنمية العادلة والمستدامة، وتعزيز المهارات والمواهب على المستوى المحلي عوضاً عن تصديرها، يشكل دعم المغتربين عنصراً أساسياً في أي جهد لتحسين ظروف البلاد. ولكن يتعيّن على هذه الأخيرة أن تسعى جاهدة للحفاظ على مشاركة المغتربين وتجذرهم لضمان نجاحها. على الرغم من أن إتاحة التصويت للمغتربين في انتخابات عام 2018 كان خطوة صحيحة مرحب بها، فإن إحدى الطرق المؤكدة لتعزيز مشاركة المغتربين هي من خلال إنشاء دائرة انتخابية لهم في البرلمان.
في نواح كثيرة، يأخذ اللبنانيون وطنهم معهم أينما ذهبوا، ويتطلع الوطن خارجاً لدعمهم بحثاً عن فرص جديدة. وبالفعل، لقد أثبتوا أيضاً أنهم يحوّلون الأمل والطاقة و الوحدة الوطنية، إلى جانب حوالاتهم المالية والإستثمارية.