عندما اندلعت الإحتجاجات في لبنان في 17 تشرين الأول 2019، نشر أشخاص من جميع مشارب الحياة دعواتهم وآرائهم على وسائل التواصل الإجتماعي. وبدت مقاطع الفيديو والصور والرسائل العديدة التي نشروها عفوية، وعبّرت عن غضبهم واستيائهم من الوضع الإقتصادي والسياسي الحالي. لكن معظم الأشخاص تبادلوا المحتوى الذي أنتجه آخرون، غالباً من دون التحقق من صحة الإدعاءات أو توثيق مصادرها أو التأكد من مصداقيته.
هنا تكمن المعضلة في البيئة الإعلامية الحديثة: وفرة في المعلومات والأدوات اللازمة لنشر الآراء، التي من المفترض أن تكون سوقاً متنوعة للأفكار الجيدة للديمقراطية، تقابلها كمية هائلة من المعلومات الكاذبة والدعاية والضجيج. من ناحية، يتمتع المواطنون اليوم بقدرة غير مسبوقة على الوصول إلى المعلومات واستخدام أدوات التواصل الفوري على امتداد مسافات شاسعة. من ناحية أخرى، قد يؤدي فيض المعلومات إلى تشويش على التفكير والقرار، لا سيما في نشر ومشاركة المعلومات التي تصلنا. هذا إذا افتراضنا حسن النيّة. لكن يمكن إساءة استخدام أدوات حرية التعبير بسهولة لأغراض سيئة بصورة متعمدة أيضاً، وهو امتياز كان حكراً على الحكومات والشركات الكبرى في الماضي.
من المفترض أن يؤدي المزيد من المعلومات إلى تحلّي المواطنين بقدر أكبر من المعرفة، والذي يعتبر ركيزة للديمقراطية، ولكنّ كماً هائلاً من المعلومات قد يؤدي إلى ظهور العقلية القبلية والمغلقة الناتجة مما يسميه الباحثون في مجال الاتصالات "غرفة الصدى" أو تعزيز المعتقدات في نظام تواصل مغلق، حيث يميل الناس إلى الإختلاط بأشخاص لديهم أفكار مماثلة لأفكارهم (على وسائل التواصل الإجتماعي) يعززون تحيّزاتهم وأحكامهم المسبقة.
وبما أننا غارقون في المعلومات ولدينا وقت وطاقة محدودان، فإننا نميل في أغلب الأحيان إلى اختيار وسائل الإعلام والأفكار والأشخاص الذين يؤكدون معتقداتنا من جديد، أي ما يسميه الباحثون التعرض الإنتقائي. عندما نصل إلى إعادة تأكيد المعلومات، تنهار دفاعاتنا الأساسية، ومن الأرجح أن نتبادل الآراء المطمئنة من دون أدنى شك، في حين أنه من الأرجح أن نرفض ونحذف المعلومات التي تتعارض مع معتقداتنا.
عندما أجرينا استطلاعاً وطنياً في الآونة الأخيرة لمعرفة كيف يطّلع اللبنانيون على الأخبار المرتبطة بالإنتفاضة، سألنا عن عاداتهم المرتبطة بوسائل التواصل الإجتماعي. في البداية، سُررنا عندما قال غالبية المشاركين (80%)، إنهم يتحققون من المصادر الأصلية قبل تبادل المعلومات، وقال 73% منهم إنهم يتبادلون الأخبار الصادرة فقط عن مؤسسات أو أشخاص يثقون بهم.
لكن بعد ذلك، طرحنا تساؤلات حول إدراك الناس لمفهوم التحقق عندما اتضح لنا أن غالبية كبيرة على جانبي الإنقسام السياسي أقرت بنشر أي شيء يدعم قضيتها: قال 69% من اللبنانيين المؤيدين للإحتجاجات إنهم نشروا أي أخبار تدعم الإحتجاجات مقارنة بـ 0% من اللبنانيين المناهضين لها، فيما قال 39% من اللبنانيين المعارضين للإحتجاجات أنهم نشروا أي أخبار تعارض الإحتجاجات مقارنة بـ 0% من اللبنانيين المؤيدين لها. بالإضافة إلى ذلك، لاحظنا أن الذين أيدوا الإحتجاجات كانوا يميلون إلى الحصول على معلوماتهم من مصادر إعلامية مؤيدة للإحتجاجات والعكس صحيح، وهذا دليل على التعرّض الإنتقائي. ويمكن الاطلاع على الدراسة الكاملة هنا: www.imrt.lau.edu.lb
في الوقت الراهن تواجه المجتمعات الديمقراطية تحدياً تاريخياً. في الماضي، كان الاعلاميون والمؤسسات الإعلامية يتحملون مسؤولية جسيمة لإبقاء المجتمع على اطلاع بالمستجدات، بينما كان دور القانون حماية حقوق الصحافة الحرّة من التدخلات الحكومية. ولكن هذه العلاقة تغيرت اليوم مع امتلاك المواطنين لهذه القوة الهائلة. لذلك يشعر الاعلاميون والمؤسسات الإعلامية التقليدية أن قيمهم قد تركتهم ضعفاء في مواجهة المعلومات الكاذبة التي ينشرها بعض المواطنين، بينما تواجه الحكومات الوضع (على الأقل تلك التي لا تغرق في غيبوبة دائمة) من خلال إقامة شعبة إضافية في قواتها المسلحة: الجيوش الإلكترونية وألوية الحرب الإلكترونية.
ما هو دور المواطنين في هذا السياق؟ قد نسارع إلى الحكم على الجماهير على أنها غير مسؤولة وغير أخلاقية وجاهلة. ولكن ماذا فعلت الحكومات لتأهيل هؤلاء المواطنين؟
خلال الحرب العالمية الثانية، إستثمرت الولايات المتحدة على نطاق واسع في الدعاية التي حذرت المواطنين من نشر المعلومات الحساسة لأعدائها. ولا يزال حتى اليوم يتردد صدى بعض العبارات الدعائية التي تحث على "ضبط اللسان لحماية السفن". لم يكن الهدف فقط تجنّب تسريب المعلومات الإستخباراتية للعدو، بل كان الهدف الأساسي هو الحد من الخطاب المحبط للمعنويات والشائعات الخطيرة التي يمكن أن تحرّض على النزاع الداخلي. في الوقت الراهن، يستثمر العديد من الدول في التربية الإعلامية كتدبير لتحضير المجتمع وتمكينه بواسطة أدوات الإتصال الجديدة.
ماذا فعلت الحكومة اللبنانية في هذا المجال؟ هل أخذت وزارات التربية السابقة والحالية بجدية، الدعوات المستمرة لدمج التربية الإعلامية في المناهج المدرسية والجامعية؟ لقد وجدت الإحصاءات الأكثر إثارة للقلق في استطلاعنا، أن 6% فقط من اللبنانيين تلقوا بعض التدريب في مجال التربية الإعلامية في حياتهم، فيما تظهر البيانات الأوّلية الواردة من بلدان أخرى، بما في ذلك العراق، نسباً مئوية أعلى بكثير. للأسف، لا يزال لبنان يتجاهل الحاجة إلى التربية الإعلامية.
مع اجتياح فيروس كورونا للعالم اليوم، هل سنتعلم من دروس الماضي؟ هل ندرك أن المواطنين غير المدربين إعلامياً، أي غير المدربين على أساليب التحقق من المعلومات وغير المدركين لتحيّزاتهم الاعلامية، من المرجح أن يمارسوا عادات تنطوي على الخطر والتعصب والأذى في تعاملهم مع وسائل الإعلام؟ هل ستدرك الحكومة اللبنانية الجديدة قيمة تعميم التربية الإعلامية التي تملك القدرة على تحويل مجتمع بأسره إلى مواطنين يتحلون بإخلاق عالية ومسؤولين لا يتبادلون معلومات ذات جودة أعلى فحسب، بل يقومون أيضاً بدور المدققين في الحقائق ويكافحون المعلومات الخاطئة؟