عندما أسافر، أكرّس بعض الوقت لاستكشاف الساحات العامة وكذلك الحدائق وغيرها من المرافق العامة لأنها بالنسبة إليّ أساس المجتمعات الناجحة. فهي مرآة تعكس السياسات المجتمعية ومستوى الخدمات التي تقدّمها الدولة إلى جميع فئات المجتمع، والفرص التي تتيحها لهم للإلتقاء والتفاعل، خصوصاً عندما تكون هذه الأماكن في متناول كل مكوّنات المجتمع من دون تمييز بينهم، إن كانوا من كبار السن أو من ذوي الإعاقة أو من العائلات.
في لبنان، أتساءل دائماً لماذا تبدو ساحاتنا فارغة وكأننا نحيا في مدن مهجورة. ربما السبب هو الحرب الأهلية وعواقبها. عندما انتهت الحرب لم يكن هناك أي عمل جاد لإعادة بناء الحيّز العام واستخدام هذه المساحات المفتوحة والمشتركة لخلق تقارب بين أبناء الوطن المنهكين من الحروب في ما بينهم. فبقيت الفضاءات العامة شبه مهجورة، ولم يتم استغلالها كمنطلق لفتح نقاشات متنوّعة بين مختلف المجموعات الإجتماعية والسياسية والدينية الخارجة من الحرب المدمّرة على كافة المستويات، والعمل معهم على الإنتقال من الحرب إلى السلم ولتعزيز مفاهيم التشارك وقبول تنوّع الآخر، بدل كل ذلك تحوّلت الساحات الى مرائب للسيارات إلى أن حلّ يوم ١٧ أكتوبر فتغيّر المشهد.
المميّز هذه المرّة، هي اللامركزية للإحتجاجات، إضافة إلى الخيم المنتشرة في كافة المناطق والتي لم تقتصر فقط على ساحات بيروت. لعبت هذه "الخيم" دوراً كبيراً خصوصاً في الأسابيع الأولى. ففُتحت النقاشات وجلسات حوار والتدريب والتثقيف في مجالات عدة، وأصبحت أمكنة للتشارك والتفاعل والتبادل، حتى أن هناك خيمة في شمال لبنان لمحو الأميّة. نحن في جمعية "HalTek"، تردّدنا وفضّلنا عدم نصب خيمة لنا في ساحة الشهداء للتعريف عن "الإعاقة"، لأننا في الجمعية ندعو الى إقامة مجتمع شامل (inclusive) يضم ويساوي بين جميع أفراده من دون تمييز. كما ترتكز قيمنا الجوهرية على تقديم الحلول لتحسين الأوضاع في البلد، بعد أن لاحظنا تراجع الخدمات، وانحدار نوعية البنية التحتيّة وشبه غيابها، فضلاً عن العمل على تغيير الصورة النمطيّة لذوي الإعاقة. فنحن كأفراد من ذوي الإعاقة لدينا مطالب المحتجين نفسها، نعاني مما يعانونه. قد تكون مطالبنا مختلفة بتفاصيل دقيقة أكثر بعض الشيء ولكننا مثلهم، لا نتمتع بالتأمين الصحي، ولا التقاعدي ولا نعيش حياة مرفّهة. لا نمارس حياتنا السياسية كما أقرّها الدستور والقوانين، ليس لتقصير منا ولكن لأسباب عديدة. الحراك حركة شعبية كبيرة، نفضّل أن نكون جزءاً منه بدل أن ننفصل عنه، نتظاهر تحت الشعارات نفسها وما إن تتحقق مطالب الكل سيكون طريقنا أسهل وأسرع لتحقيق مطالبنا الخاصة.
نزل الناس إلى الساحات من كل الفئات العمرية، ومن كل المناطق ومن كل الطبقات الاجتماعية، لاستعادة مواطنتهم (citizenship) المسلوبة. إستغلوا الحيّز العام للتلاقي، ورفعوا شعارات عديدة أهمها المطالبة بالدولة المدنية. تحوّلت جدران المدن إلى جداريات لإعلان المطالب الكثيرة: الساخر منها، والجدّي ولم تخلُ بعض الجدران من الشتائم، فضلاً عن لوحات فنية تعكس الطاقات الفنية التي تحتاج إلى مساحات لتبدع وتعبّر بطرقها الخاصة.
تجلّت قوّة المطالبة بالدولة المدنية يوم عيد الإستقلال، بعد أن كان مجرّد يوم عطلة عادي. في مشهد مغاير لكل ما شهده لبنان منذ الاستقلال عام ١٩٤٣، بادر المواطنون إلى استعادة استقلالهم المصادر منهم، بعد أن تم تأطيرهم لسنوات في مجموعات مناطقية، حزبية، دينية، مذهبية، زعائمية، على حساب مواطنتهم وانتمائهم للوطن، وقرروا تحويل يوم عيد الاستقال إلى يوم وطني مدني للمواطنين والمواطنات. ساروا أفواجاً في عروض مدنية تعكس أسس المجتمع من معلمين وأطباء وفنانين وعمّال وطلاب وغيرهم من الاختصاصات الكثيرة، وتمّ كذلك تخصيص فوج لذوي الإحتياجات الخاصة. شخصياً، كنت أفضل توزيع المشاركين على بقية الأفواج فأنا متأكدة بأن فوج "ذوي الإحتياجات الخاصة" ضمّ المحامية، والأستاذ الجامعي، ومهنيين وغيرها من الاختصاصات العديدة، فنحن كأفراد معوّقين، أولاً نحن مواطنون، نحن جزء من القوّة العاملة المنتجة وقوّة استهلاكية أيضاً، نحن كبقية أفراد المجتمع وإن كنا نعاني من إعاقة ما، فنحن نقوم بنشاطاتنا اليومية أسوة ببقية أفراد المجتمع. لدينا احتياجات لكنها لا يجب أن تعزلنا عن البقية.
في مشاهد لم نعهدها من قبل، في إحدى الليالي كان هناك صبية على كرسيها المتحرك بين الحشود، تشارك مع المحتجين في قطع جسر الرينغ. وفي يوم جلسة منح "الثقة" للحكومة، كان هناك في الساحة، شاب من مستخدمي الكراسي المتحركة، مجهزاً بالكاسك، وبثياب تحميه من المياه يشارك في الإحتجاجات ويواجه خراطيم المياه والقنابل المسيّلة للدموع مع بقية الشبان. لم استغرب كثيراً هذين المشهدين، فقد اعتدت منذ بداية الحراك على مصادفة شبان وشابات في الساحات من مستخدمي الكراسي، يمارسون حقهم الطبيعي كأفراد يسعون إلى التغيير أسوة ببقية المطالبين بحقوقهم، اعتدنا دوماً أن نحيّي بعضنا البعض من بعيد.
مرّت خمسة شهور من عمر الحراك وكأنها ألف يوم. كلي ثقة بأن المواطنين سيحققون الشعارات التي رفعوها من الحق: في التعليم، في استخدام المرافق العامة، الحق في المشاركة بالإنتخابات ترشحاً واقتراعاً، الحق في منح المرأة جنسيتها لأطفالها، الحق في ضمان الشيخوخة، والحق في الرعاية الطبية وغيرها من المطالب، وهنا لن أنسى صديقي "آلان" الذي رحل بمرض السرطان قبل يوم من جلسة الثقة تاركاً خلفه وصية للثوار "إنتقموا لي من جارور الأدوية. إنتقموا لي من كل التلوّث الذي يفتك بنا. إنتقموا لي من فاتورة استشفائي الباهظة التي بلغت منذ سنتين لغاية اليوم حوالي ٨٠ مليون ليرة من جيبي الخاص لأن الضمان ما بيغطي كل شي. إنتقموا لي من نظامنا الصحي المقيت المذلّ على أبواب وزارة الصحة ومؤسسة الضمان الإرهابية. إنتقموا لنا جميعاً". ربما آلان محق، هي معركة انتقام بيننا وبين من سلبنا حقوقنا.