في شمال لبنان، أثّر تدهور الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية على مدار عقودٍ طويلة بشكلٍ مباشرٍ على المساحات العامة، في تكوينها وهويتها وعلاقة الناس بها. وطرابلس على وجه التحديد، قد تكون من أكثر المناطق اللبنانية الغنيّة بالمساحات العامة، نظراً إلى معالمها التاريخيّة والأثريّة، والتي يمكن أن تعطي مجالاً رحباً لتعزيز المواطنة، وخلق نسيج اجتماعي وسياسي وثقافي وصولاً إلى التنمية الشاملة.
كيف تبدو هذه "المساحات العامة"؟
في الشكل، يوجد في طرابلس عدد وافر من المساحات العامة، لكن السكان لا يستفيدون من معظمها كحيّز عام لإطارهم الإجتماعي. كما أنّ هذه المساحات، لم يجرِ استغلالها جيداً من دون قيود الرقابة، حول كلّ ما يتعلق بشؤون المجتمع وتفاعل أفراده، في السياسة والثقافة والأنشطة والمعيشة والتعليم والاقتصاد.
وإذا أردنا البدء بمعالم طرابلس التراثية، نجد أنّ بعضها لعب دوراً في تشكيل حيزٍ أو نوعٍ من المساحات العامة. مثلاً، بعض المساحات العامة في طرابلس، متوافرة في الخانات القديمة والتراثية، مثل خان الصابون وخان الخياطين وخان العسكر، التي شكّلت مساحة تلاقٍ لأهالي المدينة والوافدين إليها. وكذلك، شكّلت الحمّامات الأثرية في طرابلس حيّزاً للمساحات العامة، وعدد الحمّامات 11، لم يبقَ منها قيد العمل غير "حمّام العبد" ويقع داخل أسواق طرابلس القديمة، ويتوافد إليه أهالي المدينة وضواحيها، كما يقصده معظم السائحين الأجانب في المدينة.
حدائق وساحات
وعلى مقلبٍ آخر، يوجد في طرابلس عدد من الساحات مثل "ساحة عبد الحميد كرامي" المعروفة بـ"ساحة النور"، وساحة التلّ وساحة الكورة وساحة دوّار الميناء، وأيضاً عدد آخر من الحدائق العامة، وأشهرها حديقة "المنشيّة" في وسط ساحة "التلّ". أمّا اليوم، فقد أصبحت هذه الحديقة شبه معطّلة، نادراً ما يعبرها الناس أو يجتمعون في داخلها، واقتصر دورها أن تكون ملجأ للمتسوّلين أو المشرّدين الذين لا مأوى لهم.
تحوّلات 17 تشرين
كلّ ما سبق ذكره، لم يُسعف أهالي طرابلس في تكوين هويتهم ونسيجهم الإجتماعي ضمن مساحتهم العامة، نتيجة تهميش الدولة لهذه المدينة، وغياب الخطط الفاعلة لتأمين الإنماء المتوازن. لكن، ومع اندلاع حركة الاحتجاجات الشعبية منذ تاريخ 17 تشرين الأول 2019 حتّى اليوم، تحوّلت علاقة الطرابلسيين مع المساحات العامة رأساً على عقب، كما حال مختلف المناطق اللبنانية. من جهة تغيّرت علاقاتهم مع هذه المساحات، ومن جهة أخرى إستطاعوا خلق مساحات عامة جديدة، ساهمت في تأطير تحركاتهم وأعطت رمزية خاصة لمطالبهم المعيشية والإقتصادية، وطُبعت أيضاً بشعاراتهم ضدّ النظام العام والسلطة.
ولعلّ أهمّ ما حققته طرابلس بعد تاريخ الإنتفاضة الشعبية، تجلّى باستعادة مكانتها المسلوبة، ولو معنوياً، فعاد التعاطي اللبناني مع هذه المدينة بوصفها فعليّاً "عاصمة لبنان الثانية"، بعد أن حملت لقب "عروسة الثورة". هذا اللقب، اكتسبته طرابلس من ساحاتها العامة، وتحديداً من "ساحة النور" التي توافد إليها مئات الآلاف من طرابلس وضواحيها وخارجها، للتعبير عن ثورتهم، واستطاعوا في هذه الساحة أن ينتجوا خطاباً مطلبياً وسياسياً جديداً، شكّل حالة انقلابٍ كبرى على الطبقة السياسية الحاكمة على مستوى طرابلس ولبنان.
وما شهدته "ساحة النور" في طرابلس، ما بعد 17 تشرين الأول، يمكن تسجيله كواحدٍ من أبرز مكاسب الانتفاضة الشعبية، إثر نجاح المواطنين والمواطنات لأول مرّة منذ عقودٍ طويلة، أن يستعيدوا الحيّز العام في معظم المناطق، خارج مركزية العاصمة بيروت. و"ساحة النور"، هي واحدة من الساحات التي استطاعت أن تكوّن مساحتها العامة المشتركة، وتكسر نمطيّة دورها التقليدي كمستديرة لعبور السيارات فحسب. وكذلك، تخطّى دورها ككيانٍ جغرافي تجري فيه الأحداث، إلى كيانٍ مدني عزّز مفهوم المواطنة، ومكّون أساسي ساهم في إنتاج الثورة وضمن إستمرارها وحدّد فترات تأجيجها أو حتّى خفوتها.
ومن أبرز مظاهر تحوّل علاقة الناس مع الساحات العامة في طرابلس، هو أنّ ثورتهم امتدت إلى مكان وشوارع لم تكن متاحة أمامهم، مثل شارع عزمي والميناء وبعض الشوارع الداخلية. حتّى محيط بيوت الزعماء في طرابلس، والتي كان لها "هيبتها" وخصوصيتها في الحراسة والأمن، دخلت أيضاً في حيّز المساحات العامة التي شكّلها الثوار وأسقطوا هيبتها بمحاصرتها والتظاهر أمامها لإطلاق الشعارات الثورية.
كما أنّ "ساحة النور" بعد الانتفاضة الشعبية، إمتدّ نطاقها الجغرافي – التفاعلي، فشمل تقاطعات أخرى عند مسارب الساحة، نصّب فيها بعض الناشطين خيمات لعقد حلقات الحوار، في الشؤون السياسية والإقتصادية والتعليمية والثقافية. وهذه الخيمات، شكّلت بدورها أيضاً "مساحات عامة" في الهواء الطلق، ومفتوحة أمام العامة، للتلاقي ونقاش ورفع مستوى الوعي على مختلف الصعد. أما بعض المقرّات الرمزية للدولة والسلطة، أصبحت مستباحة في طرابلس، مثل السرايا والمالية والمصارف وكهرباء قاديشا، وتحوّلت من مجرّد مراكز رسمية إلى مساحات عامة يقصدها المواطنون للتعبير عن غضبهم وآرائهم ومطالبهم.
ورغم أنّ "زحف الفقر" تمدّد إلى قلب طرابلس، في ظلّ تفاقم الأزمة الإقتصادية وتفشّي الفوضى وارتفاع نسبة البطالة، نجح أهالي المدينة بساحاتهم العامة في أن يمارسوا مفهوم المواطنة، وأن ينخرطوا في ممارسة الحياة السياسية، بعد أن كانت السياسة في طرابلس، أشبه بعالمٍ بعيدٍ منه.