أنزل من السيارة، وأجتاز الحاجز الإسمنتي الذي يفصلني عمّا يُفترض أنه موقفٌ ومحطة لنقل الركاب، وأسير صوب المستوعب-المكتب الوحيد المضاء لأسأل عن الرحلات إلى سوريا. أمام المستوعب يافطة صفراء كُتب عليها بالأزرق: طرطوس-بانياس-جبلة–اللاذقية، ومن فوقها الأردن.
أقف أمام الزجاج وأنتظر الموظف كي ينهي مكالمة على هاتفه الخليوي. تطول المكالمة ويطول انتظاري، فأتأمل الإعلان الملصق على الباص والسيارة-الجائزة المعروضة للربح فوق ركوة قهوة مرسومة على عجل أو هكذا افترضتها. أقف وأتخيّل مذاق القهوة وطعمها ورائحتها. أنا الذي توقفت عن شربها منذ تركت التدخين، أي قبل عشر سنين تقريباً من الآن.
أستدير مجدداً إلى الموظف الذي ما زال منشغلاً بالحديث على هاتفه، لعلّه يعلم هو أيضاً أن لا عجلة في طلبي، فالموقف أمامنا نحن الاثنين خالٍ، ولا يوجد أي علامات لرحلة قد تنطلق قبل ساعات من الآن، فلا ناس ولا ركاب ولا حتى سائقو التاكسيات أمام سياراتهم، وهم الذين لطالما ركضوا خلف كل مشتبه بسفره ولم يفلتوه إلا اذا ضمنوه راكباً على أحد مقاعدهم.
ننظر أنا والموظف إلى بعضنا البعض فيما هو يكمل مكالمته التي بدا لي أنها خاصة، فمنها ما يتعلق بأولاده، ومنها ما يتعلق بأجرة حكيم أبيه، ومنها ما خرج عن كل هذا ليتمحور حول جبنة حلوم لم تصل إلى «أبو وحيد». وكمن يريد أن يشركني بهمومه، يومىء إلي بعينيه ناحية باب المستوعب. أنظر إلى الباب وأدخل من دون تردد كمن اعتاد زيارة المكتب، وبإيماءة ثانية منه أراني جالساً على كرسي وُضعت عليه وسادة تآكلَت مع الوقت وأخذت شكل الكرسي وشكل من تعاقب في الجلوس عليها.
يستدير الموظف ناحيتي وينظر إلي ويستأذنني بحركة من عينيه قائلاً «مكالمة خارجية»، فأهرب من الإجابة ومن عينيه، وأنظر إلى كومة الجرائد المكدّسة تحت طاولة، والتي لولا سائل التنظيف الأزرق الموضوع عليها لما كنت فهمت أنها لمسح الزجاج الذي فُتحت فيه دائرة غير سوية في الأسفل لتسهيل التواصل بين الموظف ومن هم في الخارج، ولتمرير المال والبطاقات.
على الزجاج الذي يعلوه من الداخل والذي يعكس اسم الشركة المسيّرة للرحلات، تطير نحلة بتوتر، وتصطدم به، ثم تحطّ على كوب من الشاي موضوع أمام الموظف.
في الخارج رجلان يحمل كل منهما على كتفه حقيبة سفر يمرّان من أمامنا. أحاول أن أعرف وجهتهما إلاّ أن عينيّ تنشغلان بحائط مسيّج من الناحية الثانية للطريق، حائط يعلو بين سفر ركاب المحطة الغائبين وبحر بمرفأ تجاري أم هكذا أفترضه من حيث أجلس على الكرسي هو باب لسفر البضائع دون سواها. على الحائط رسم بسيط لدراجتين هما أيضاً من دون راكبيهما كما لو أن المكان كله بحيطانه ورسومه فقد ناسه.
تترك النحلة فنجان الشاي، وتعود لتصطدم بالزجاج أمامي، فأقف وأتجه نحو الباب، ثم أخرج تاركاً الموظف منشغلاً بمحدثه. لا أثر للرجلين في الخارج وكأنهما اختفيا، لعلهما صعدا إلى الحافلة المتوقفة والتي تحمل إعلاناً للبن البرازيلي. أتأمل نوافذ الباص التي تغطيها البرادي الأرجوانية، وأنتبه إلى وجود رجل وامرأة يجلسان في مقدمة الباص بانتظار انطلاق الرحلة أجتازُ الباص نحو سيارات الأجرة فأرى سائق إحداهنّ يوضّب أكياساً داخل صندوق سيارته الكبير فيما زميله يناوله إياها. ينظر إليّ السائق ويسألني: «طرطوس؟»
أهز برأسي، يسألني زميله «الشام؟» فأجيبه: «كلا». يكملان توضيب الأكياس وأكمل أنا سيري باتجاه باحة هي فسحة انتظار زُرعت من حولها مقاعد من الباطون على شكل نصف دائرة، منها ما هو رمادي، ومنها ما هو ملون بألوان باهتة، ومنها ما هو مغطّى بصفائح من علب الكرتون عمل أحدهم على فتحها ومدّها فوق الباطون لتتحول إلى فرشة للنوم وغطاء يقي من ينام تحتها من الهواء الرطب الآتي من البحر، والذي يبرد ليلاً في مثل هذا الوقت من السنة.
بضعة أشخاص لا يتعدى عددهم العشرة يجلسون أو يتمشون في الفسحة، أغلبهم سائقون أو عاملون في الموقف، يدور حولهم بائع قهوة متجول عارضاً عليهم ما يشربونه، يحفظ طلبهم ووجوههم ليختفي قليلاً خلف لوحة إعلانات من دون إعلان تضيء بابوراً للغاز أشعله ليسخّن المياه وليعدّ القهوة عليه، يصبّها في أكواب وعاد بها ساخنة ليوزّعها سريعاً على طالبيها دون أن يخطىء بصاحبها ويقبضً ألف ليرة ثمن كوب بلاستيكي صغير من القهوة، ومثلها لكوب بلاستيكي كبير من الشاي، وضعفهما لكوب كرتوني كبير من «النسكافيه».
يقترب مني بائع القهوة ويسألني عمّا أشرب، وقبل أن أجيبه يتركني وينتقل إلى رجل جلس بقربي ويسأله، وقبل أن يعود إليّ أغادر الباحة عائداً إلى المستوعب-المكتب، ومن بعيد ألمح الموظف وقد أنهى مكالمته. أتجه صوبه، وحين أصل أقف خلف الزجاج، أنظر إليه، أتردد قليلاً، ينظر بدوره إليّ كمن نسي ماذا يريد، أتمتم، أتلعثم، أعتذر وأبتعد على مهل. أجتاز الطريق التي تفصل المحطة عن حائط المرفأ، أقف وأنظر مرة أخيرة إلى المحطة وإلى رسميّ الدراجات، تتوقف أمامي سيارة أجرة، أقول لسائقها «الحمرا؟»، أصعد إلى جانبه.
وفيما كانت السيارة تبتعد عن المحطة، كان البحر ينكشف تدريجياً لنا، فرحت أنظر إليه وأفكر بإعلان البن الملصق على الباص، وبالبائع الذي يقدم قهوة لا رائحة لها، أو لعلني لم أعد أميّز طعمها بعد طول انقطاع. أغمض عينيّ وأتخيل كيف سيكون طعم القهوة وأنا أقود السيارة التي في الاعلان... في شوارع البرازيل.