ربّما كان التحوّل الأخير إلى اعتماد "كل شيء عبر الإنترنت" أثناء جائحة كوفيد-19 مفاجئاً لبعض الناس، ولكنّ الحقيقة هي أنّ عدداً كبيراً من المبتكرين كانوا يستعدّون منذ فترة طويلة لهذه الخطوة.
بعد عمليات البحث على الإنترنت، ووسائل التواصل الإجتماعي، والإجتماعات الإفتراضية، من المتوقّع أن تشقّ منتجات أكثر ملاءمة طريقها إلى حياتنا. ومع الابتكارات الجديدة، تأتي شركات التكنولوجيا المتطوّرة الأساليب التي يمكن أن تجعل نفسها أكثر ضرورة بالنسبة إلينا.
وبغضّ النظر عن المجال الذي تنتمي إليه، على الأرجح كان عليك التحوّل إلى شكلٍ من أشكال العمل عبر الإنترنت في الأشهر القليلة الماضية. إذ استدعت الحاجة، بغية الإستمرار في روتيننا اليومي خلال فترة الحجر، إلى دخول عمالقة التكنولوجيا العالميّة إلى بيوتنا، وكانوا سريعين في التدّخل، وربّما بشكل محقّ. فهم يمتلكون التكنولوجيا والوسائل. لقد كانت مسألة وقت فقط، قبل أن تستبدل أدواتهم الرقميّة الجديدة بعض عاداتنا.
إذاً، ما هي الوظيفة التي لعبتها جائحة كوفيد-19 لتعزيز الدور الذي تضطلع به شركات التكنولوجيا أصلاً؟ هي ببساطة أدّت إلى تسريع التوجّه نحو التشغيل الآلي. بالنسبة إلى البعض، قد تولّد فكرة الذكاء الإصطناعي أو الواقع المعزّز/الإفتراضي أفكاراً عن سيطرة الروبوتات على العالم، ولكن بالنسبة إلى خبراء التكنولوجيا، فإنّ مستقبلنا يكمن في الرقمنة.
إنّ الإبتكارات، مهما كانت مفيدة، فهي لا تنطبق على جميع السياقات. وفي لبنان، تطرح الرقمنة مشاكل ترتبط بشكل أساسي بقطاع التكنولوجيا والبنية التحتيّة. ومما يزيد من تفاقم حالة البنية التحتيّة البالية، إنقطاع الإنترنت والتيّار الكهربائي الذي هو نتاج مباشر للإقتصاد الفاشل. وخلال هذه الجائحة، تجلّت هذه المشكلة بوضوح في مجال التعليم. فقد أدّى انقطاع التيّار الكهربائي في الوقت المحدّد، مقترناً ببطء الإنترنت ومحدوديّة بيانات الهواتف المحمولة، إلى زيادة سوء حالة بيئة التعلّم عبر الإنترنت بشكل كبير لكلٍّ من المعلّمين والطلّاب.
وإلى جانب التعلّم، فإنّ الرقمنة مربكة للشعب اللبناني بطرق أخرى مختلفة. فقد فرض انهيار الإقتصاد في عام2020 قيوداً على المدفوعات على شبكة الإنترنت والمشتريات الدولية، ممّا جعل من الصعب للغاية، إن لم يكن من المستحيل، إجراء أي نوع من التجارة الإلكترونيّة. وفي خضمّ المشاكل المتراكمة التي تواجهها البلاد، تمّ وضع التكنولوجيا جانباً. إذ عندما يكون الهدف الحالي هو البقاء على قيد الحياة، فإنّ تنظيم المنتجات التكنولوجيّة أو إيجاد حلول لمشاكلنا الإلكترونيّة، يحوّل هذه الضروريات إلى كماليّات.
ومن منظور إعلامي، إنّ الحضور القوي لهذه الشركات يتجلّى أيضاً في الأجندة الإخباريّة الآليّة التي تقدّمها هذه الشركات لتوجيه اهتمامنا إلى قصص إخباريّة محدّدة. إنّ التكنولوجيّات التي توفّر لنا ترف ممارسة الأعمال التجارية والإستمتاع بالصداقات من بعيد ليست موجّهة آلياً، بل يقودها الإنسان. إنّ الخوارزميّات التي تولّد لنا الأخبار هي نتاج سلسلة من الرموز التي شارك الإنسان في تصميمها. والواقع أنّ الأجندة الإخبارية التي تديرها الخوارزميّات والتي قد تبدو بريئة في الظاهر، تزيد من خطر انزلاقنا إلى فقاعة المرشح. وإنّ خطر هذه الرسائل الإخبارية يتجاوز خطر اختيارنا بأنفسنا للأخبار عمداً، لأنّها تتعلّم عاداتنا وتعود وتزوّدنا بها بمهارة من دون أن تمنحنا فرصة إدراك تحيّزاتنا المتأصّلة على أمل تغيير عاداتنا المتّبعة في اختيار الأخبار. ويولّد "تردّد الخبر" هذا الإستقطاب، الذي يضعف المداولات المدنيّة، وفقاً لما كتب سنشتاين في عام 2001.[1]
ولكنّ استخدام الرموز لإنتاج الأخبار لا يقتصر على شركات التكنولوجيا ومواقع تجميع البيانات على شبكة الإنترنت وحدها. إذ تستخدم العديد من المؤسسات الإخبارية بالفعل برامج البوت في صنع المقالات الإخباريّة. وحتى الآن، لا تكشف الأبحاث سوى القليل عن كيفيّة استجابة الجمهور للأخبار الآلية. فقد أظهرت تجربة حديثة قام بها تندوك جونيور وزملاؤه[2] وتمّ نشرها في مجلّة الصحافة الرقميّة، أنّ الجمهور بشكل عام، لا يميّز بين الخوارزميّة والقصص البشريّة المكتوبة من حيث المصداقيّة. غير أنّ المشاركين اعتبروا أنّ مقالةً موضوعيّة من كتابة برنامج البوت، هي أكثر مصداقيّة من مقالة من كتابة الإنسان. ولكن يبقى علينا أن نرى كيف سنتقبّل ذلك في المستقبل.
كيف لنا، مع القليل من السيطرة التي بقيت لدينا، أن نواجه المحتوم وأن نبني حياة أفضل حوله؟ إنّ التعامل مع هذه الشركات الإعلامية بتفكيرنا الخاص الناقد، سوف يؤثّر بشكلٍ كبير على نوعيّة حياتنا ومَن حولنا. وهنا يؤدّي التثقيف الإعلامي دوراً محورياً. إنّ تطبيق تقنيات التصفية الأساسيّة وتقييم المعلومات التي نتلقّاها للحصول على الحقائق ضروريان من أجل البقاء في عالم رقميّ سيصبح أكثر انتشاراً. كما أنّ التصرّف بمسؤولية خلال استهلاك وسائل الإعلام وإنتاجها، سيضمن أيضاً أنّنا كمواطنين نشارك في نشر السلام في مجتمعاتنا.
بيد أنّ هذه الممارسات ليست فطريّة. لقد أخبرنا علم النفس دوماً أنّ البشر لديهم شحّ معرفيّ، ويسعون إلى الحفاظ على الموارد العقلية بدلاً من تخصيصها، بحيث يشاركون بشكل مركزي في رسالة، كما اقترح نموذج تطوير الإحتمالات (ELM). في حين أنّ هذه الوظيفة ضرورية في بعض الحالات، فإنّ تطبيقها على عاداتنا في اختيار وسائل الإعلام تمنعنا من بذل الجهد المطلوب للتحقّق من صحّة الرسائل الإعلامية. إذاً، إنّ اعتماد السبيل المختصر أمرٌ مدمّر في بيئة الإنترنت، حيث أصبح التحقّق من المعلومات أكثر صعوبة. إنّ معرفة مصدر الرسالة، والنوايا خلفها، ومرسلها، ودلالاتها يعني أننا قادرون إلى حدٍّ كبير على تعزيز الدروع التي تحمي صحّة عقولنا.
يواجه الشعب اللبناني تحدّيات خطيرة في هذه الأوقات العصيبة. وفي غياب الحلول من قبل السلطات العليا، فإنّ السبيل الوحيد للإستجابة لتدفّق الرقمنة، يتلخّص في المبادرات الشخصية التي تتمحور حول معرفة مخاطر "تردّد الخبر" التي قد تقف في طريق الأجوبة نفسها التي نسعى إلى العثور عليها. وبالنسبة إلى المتفائلين بيننا، فإن الإضطرابات تمثّل فرصة للمبتكرين المحلّيين لمعالجة المشاكل المحليّة. كما أنّ التوعية التي تستهدف بناء مجتمعات أقوى، على أساس المعرفة التكنولوجيّة والرقميّة، من شأنها أن تمكّن الأفراد من النظر إلى ما هو أبعد من الحاضر والبدء في وضع خطط لمعالجة الرقمنة الكاملة التي تنتظرنا في المستقبل.
إنّ الجائحة ستنتهي، ولكنّ شركات التكنولوجيا العالمية ستستمرّ في التوسّط في حياتنا اليومية. إنّ كيفية تعاملنا معها، ستحدّد مدى قدرتنا على تحقيق الإستفادة القصوى من هذه الأدوات الرقميّة، من دون الإستسلام لاستهلاك ونشر أخبار غير مؤكّدة. وفي المجالات القليلة التي ما زلنا نستطيع السيطرة عليها، قد يكون العقل المتشكّك هو منفذنا الوحيد للهروب.