في ظل الإنهيار الحالي، لا مناص من التسليم بأنّ الضرر طاوَل قطاعات الدولة كافّة من دون استثناء، ولو بنِسَبٍ متفاوتة، وإن حظيَ بعضٌ منها باهتمامٍ فريد وكانت له بالتالي فرص أوفر للصمود.
قد يكون قطاع التربية والتعليم أكثر المتضرّرين، وأكثرهم عجزاً عن الاستمرار. أساساً، كان هذا القطاع مهمّشاً تاريخيّاً في لبنان، واشتدّ تهميشه ما بعد اتّفاق الطائف. إنّما المؤسف هو أن الضوابط تزداد عليه في هذه الأزمة، عوضاً عن وضع خطط استراتيجيّة لإنقاذه. وحتّى عندما اتّجهت بعض الأطراف السياسيّة لإبداء الدعم في هذا الميدان، أتى لشقّه الخاص حصراً، على حساب الشقّ العام، بينما يُفترض أن تكون المسألة معكوسة، أو أقلّه أن يُقام تزاوجاً بين الشقَّين.
تجلّت إرهاصات الأزمة في قطاع التربية والتعليم على مستوياتٍ عدّة، بدءاً من أبسط حقوق الطلّاب وصولاً إلى أقصى الواجبات في السياسة التربويّة -وما بينهما. نحاول في مقالنا الإضاءة على معظم هذه الجوانب، بالتدرّج من أعلى إلى أسفل:
نظرة السلطة إلى قطاعات الدولة
لا يُخفى على أحد أنّ التعليم ليس من أولويّات السلطة الحاكمة. يمكن استبيان ذلك (مثلاً) عند معاينة ميزانية الجامعة اللبنانية عبر السنين؛ إذ بلغ مجموع "التشحيل" المتراكم من عام 2005 إلى عام 2014 نحو 210 مليارات ليرة، عوضاً عن تدعيم هذه الميزانيّة، أو أقلّه الحفاظ عليها، وهي الآن تُقارب الـ 370 مليار ل.ل. سنويّاً فقط، وبالليرة اللبنانية طبعاً. عدا عن الأرقام، المنطق السائد لا يَحتسب عادةً قطاع التعليم قطاعاً منتجاً. غالباً ما يكون التركيز على القطاع المصرفي والسياحي (علماً أنّهما يتّكِئان على الاقتصاد الرَيعي)، أو يكون الحديث عن الزراعة والصناعة باعتبارهما القطاعَين المُحرّكَين للاقتصاد المنتج. بينما يُغَيّب قطاع التعليم، علماً أنّه في صلب عمليّة "الانتاج"، إذا ما نظرنا إلى الطالب كقيمة معرفية قابلة لأن تتطَوَّر وأن تُطوّر مجتمعها في الوقت عينه.
إستراتيجيّة الإدارات
إدارات الجامعات الخاصّة توجّهت لاعتماد ما يُسمّى "سياسة السنّارة"، حتى لو لم تعلن ذلك صراحةً. قرّرت عدم دَولَرة الأقساط (وهذا مطلوب)، فأصدرت تعميمات تعلن فيها الحفاظ على $1 = 1500 ل.ل. إنّما، يأتي ذلك مشروطاً بأنّ تسعيرة الفصل الثاني قابلة للتغيير. هذا يعني أنّ الإدارة ستعتمد سعر الصرف الرسميّ في أقساط الفصل الأوّل، ليتسجّل الطلّاب، ثم تعدّله (على الأرجح وفق سعر المنصّة، 3900 ل.ل.) في الفصل الثاني، فتعوّض الفرق، وأكثر. بذلك، يكون الطالب قد أكل الطُعم، وعلق بالسنّارة، مضطرّاً إلى متابعة عامه الجامعي بكلفةٍ أعلى.
الأساتذة والإستغلال المُضاعَف
هنا، دخلنا في خانة المتضرّرين. فالأساتذة، بجزءٍ منهم، غير مهيئين أساساً لعرض صفوفهم أونلاين، كونهم بقوا لعقودٍ أسرى المنهاج الرتيب عينه. جزء آخر مُهَيّء، إنّما وقعت على هؤلاء مسؤوليّة تحديث المواد، بشكلٍ فردي (من دون أي بدل إضافي)، لسدّ الفجوة الهائلة بين متطلّبات التعليم عن بُعد والمادة الموجودة أساساً. وهذا ما كان يجب أن يكون من صلب مهمّات الوزارة منذ ما قبل زمن الكورونا حتّى. ناهيك عن تبِعات الأسلوب المُدمَج للتعليم، من حيث المخاطر الصحّية أم من حيث إطالة أمد الحصص لتعويض الفرق، لكن من دون لمح ذلك في المعاشات. أساساً، مدارس وجامعات عدّة اقتطعت من رواتب معلّميها وموظّفيها، أو حتى طردت منهم من دون سابق إنذار.
الطلّاب، الحلقة الأضعف؟
أمّا الطلاب، فهم قاعدة الهرم. وهم من يتحمّلون القدر الأكبر من تبِعات الانهيار، بدءاً من صعوبات التسجيل وصولاً إلى التخرّج والبطالة. حتّى أولئك الذين نفّذوا بريشهم وتابعوا دراستهم في الخارج، أمسوا أسرى التعميمات المصرفية التي قبضت على حساباتهم وعلى تحويلات أهاليهم وعرقلت مسيرتهم الأكاديميّة.
أما في الداخل، فالتغيّرات في البنية الطلابية عديدة، أبرزها "الهجرة الداخلية"، أوّلاً من التعليم الخاص إلى الرسميّ: مثلاً، يُقَدّر أن الجامعة اللبنانيّة ستستقبل 5000 - 6000 طالب إضافي هذا العام بسبب:
1- النزوح من الجامعات الخاصة.
2- عودة طلّاب مهاجرين لن يتمكّنوا من استكمال دراستهم في الخارج بعد انهيار سعر الصرف.
3 - المتخرّجون بموجب الإفادة.
ثانياً، نقصد بـ "الهجرة الداخلية" أيضاً خروج الطالب من التعليم عموماً، بسبب عدم قدرته تأمين رسوم التسجيل أساساً، ليتوجّه بذلك إلى البطالة المُقَنّعة. كل هذا يستتبع بالضرورة ضرباً لمستوى التعليم في لبنان. ناهيكَ عن غلاء الكتب والقرطاسية والمواصلات والاتصالات...
في هذا السياق، تقول رنا، وهي طالبة "سابقة" في إحدى الجامعات الخاصّة: "فضّلتُ أن أكمل تعليمي في الجامعة اللبنانية، لأسبابٍ ماليّة. فأنا انتهيتُ للتَو من السنة الثانية، وبقيَت لي 3 سنوات. أستطيع إكمالها في جامعتي السابقة إذا بقيَت تسعيرة الأقساط على الـ 1500 ل.ل. لكن هذا ما لا يبدو مؤكّداً، ولا أحبّذ أن أغامر وأنخدع في منتصف العام عند إقرار التسعيرات الجديدة، ما سيمنعني من المتابعة، وأكون بذلك قد خسرتُ عاماً جامعيّاً". بينما يغامر معظم طلّاب السنوات الأخيرة من دون تغيير جامعتهم، فهم يحسبون أنّه "حتّى لو أكَلنا الضرب، وتَغَيَّرت التسعيرة، سيكون ذلك في فصلنا الأخير في الجامعة". تُضيف رنا: "إنعكاس هذه القرارات لا يتعلّق بالماديات فقط. هذا التردّد والضياع تجاه حسم خيارنا (رهناً بمعطياتٍ مجهولة)، يراكم علينا ضغطاً نفسيّاً أيضاً". أمّا النوادي الطلّابيّة المستقلّة، فقد أشارت إلى أن تدهور الوضع المالي سيغيّر كل مقاربة الطلّاب للتعليم، فهم باتوا يبحثون عن الأرخص بغض النظر عن المستوى، حتّى أنّهم ما عادوا يمتلكون "تَرَف" دَوبلة الصفوف أو فتح عامٍ جديد إن كانوا ينوون تخفيف ساعات الدراسة للعمل بالتوازي معها، وهذا يستتبع بدوره إشكاليّاتٍ جديدة.
لكن على الرغم من ذلك، لا يصحّ اعتبار الطلّاب الحلقة الأضعف، لسببٍ بسيط: إدراكهم لحقوقهم. وهذا ما يضعهم في مقدّمة الفئات الثورية والناشطة في لبنان. إذ أنّ معظم هؤلاء، وبفضل انتفاضة 17 تشرين، باتوا أكثر التصاقاً بالشأن العام، وتمكّنوا في غير مرّة من تحويل قضاياهم الداخلية إلى قضايا رأي عام، وها هم يبادرون منذ أشهر إلى ترتيب صفوفهم في تنظيمات طلابيّة قاعديّة علمانيّة وديمقراطيّة التوجّه.
الأفق شبه مسدود
على ما ذُكر، تبدو الحلول معدومة. فكما أنّ أزمة قطاع التعليم من أزمة النظام كلّه، فحلّ الأولى يكون بحلّ الثانية. لكنّ إعادة ترتيب القطاع ممكنة بخطوات مُحدّدة ومُستعجَلة، للحدّ من تبِعات الإنهيار.
إداريّاً، بضعة اجراءات متعلّقة بسياسات القطاع العام باتت مُلحّة. مثل تحديد الملاكات في الجامعة اللبنانية والثانويات، كسبب ونتيجة لوقف التوظيف السياسي التحاصصيّ. على مستوى آخر، يجد بعض الأساتذة أنّ هذه هي اللحظة المناسبة لإعادة وضع التعليم المهني في الواجهة، ونزع التنميط السلبي عنه. فالتوجّه إلى المهني من شأنه أن يخفّف من التخمة التي تصيب التعليم الجامعي، وأن يمدّ سوق العمل بالمهن المطلوبة منه اليوم، وأن يحلّ جزئياً إشكالية البطالة المُقَنّعة.
إقتصاديّاً، لا حلّ إلّا بإعادة هيكلة الموازنة العامة للحكومة، بشكل يُعطي الأولويّة للقطاعات المنتجة، ضمناً التعليم. ومن جهة أخرى، وقف مزاريب الهدر، وإعادة استثمار قدرات الخرّيجين في الأعمال والأبحاث العلميّة داخل البلد، عوضاً عن استجداء الشركات الأجنبية. أمّا التخبّط فهو في ملف التعليم عن بعد، ولا يبدو أنّ هناك مهرباً من "التضحية" بجيلٍ بسبب سياسات الترقيع.
"قطوع وبيمرق"؟ كلا، هذه المرّة الأزمة بنيويّة. إن لم تُعالج جذريّاً اليوم فستحمل لاحقاً إنهيارات أسوأ. آن الأوان إذاً لنعيد ترتيب أولويّاتنا، ولإدراك أن قطاع التربية والتعليم - بفضل المعرفة والقوى البشريّة التي ينتجها - هو الضامن الأساس لاستمرار المجتمع.