بينما يواجه لبنان إنهياراً متعدّد الأوجه ناجماً عن سوء الإدارة المتعمّد وفساد المؤسسة السياسية الحاكمة، فضلاً عن جائحة عطّلت مؤقتاً الكثير من النشاطات الإقتصادية وتفشّت بوتيرة مقلقة في الأشهر الأخيرة، تعالت الأصوات الداعية إلى "البدائل" والسائدة منذ 17 تشرين الأول 2019. تتراوح هذه البدائل بين الدعوات إلى تشكيل حكومة إنقاذ بقيادة أفراد كفوئين وصادقين، وبين تغييرات جذريّة في السياسات المالية والإقتصادية الليبرالية الجديدة التي استمرّت عقوداً، والتي كانت القاعدة في لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية. ومع أن هذه الدعوات ذات النوايا الحسنة قد هدأت إلى حدّ ما وسط حالة عدم اليقين السياسي التي أعقبت الإنفجار المدمّر في بيروت في الرابع من آب، وما تلاه من إستقالة للحكومة، إلّا أنّه يجدر الأخذ بعين الإعتبار أنّ أيّ دعوات لإجراء تغييرات جذريّة لا يمكن تحقيقها من دون المشاركة الفعّالة للقوى العاملة بشكلٍ منظّم. فمنذ أواخر التسعينات، أصبحت الحركة العمّالية في لبنان ضعيفة وعديمة الفعاليّة، حيث تمّت السيطرة عليها بالكامل من قبل المؤسسة السياسية. منذ انطلاق الثورة، بُذلت جهود عديدة لإنشاء نقابات عمّالية بديلة، في حين أنّ هذه الجهود واعدة وينبغي الإشادة بها وتشجيعها، فإنّ وجود حركة موحّدة وقويّة عابرة للطوائف قادرة بفعاليّة على التصدّي للقوى السياسية والإقتصادية المتجذّرة يظلّ بعيد المنال.
حركة عمّالية غير موجودة؟
تميّزت فترة ما قبل الحرب بحركة عمّالية نشطة وعابرة للطوائف تمكّنت من تحقيق مكاسب كبيرة من خلال ممارسة ضغط كبير على المؤسسة السياسية ونخبة رجال الأعمال في البلاد. ولكن لا يمكن قول الشيء نفسه عن الحركة العمّالية في فترة ما بعد الحرب. ورغم أنّ النصف الأوّل من التسعينات شهد خلافات واعتراضات كبيرة بين الدولة والعمّال، فبحلول عام ١٩٩٧[i]، أصبح الاتحاد العمّالي العام في لبنان ضعيفاً بالفعل: ولم تكتف المؤسسة السياسية بحجب مخصصّات الدولة لهذا الاتحاد فحسب، بل تمكّنت أيضاً من اختراقه من الداخل من خلال الترخيص بإنشاء نقابات "وهميّة" مع القليل من المنتسبين الحقيقيين، الذين سيطروا بعد ذلك على الاتحاد. وبدلاً من تحدّي الشبكات المترسّخة للسلطة السياسية والإقتصادية من أجل الدفاع عن حقوق المضطهدين، جلست الحركة العمّالية المحيّدة[ii] في لبنان في العقدين الأوّلين من القرن الحادي والعشرين مكتوفة اليدين، بينما قامت المؤسسة السياسية بتمرير سياسات إقتصادية ومالية ليبرالية جديدة أثّرت بشكلٍ غير متناسب على الطبقات الفقيرة والعاملة.
حركة عمّالية جديدة؟
ليس من المستغرب أنّ الإعلان عن فرض ضريبة تنازليّة غير مقبولة للغاية على تطبيق اتصالات محمول من المفترض أن يكون مجانياً - ضريبة الواتساب الشهيرة - كان القشّة التي قصمت ظهر البعير. فقد تُوِّجت عقود من زيادة الضرائب وسط بنية أساسية عامة متداعية، وخدمات عامة معدومة، وتدهور مطّرد في مستويات المعيشة، باندلاع ثورة على نطاق البلد. وكانت الحركة العمّالية وسط هذه الثورة غائبة على نحو ملحوظ، لكنّه غير مفاجئ.
وفي ظلّ هذه الحالة المفكّكة للحركة العمّالية، التي واكبتها ثورة بدأت تكتسب المزيد من الزخم، ظهرت العديد من النقابات البديلة الجديدة[iii]. فعلى سبيل المثال لا الحصر: تمّ تشكيل نقابة بديلة[iv] للعاملين في مجال الإعلام؛ وقام العاملون في المنظمات غير الحكومية[v]، وكذلك أساتذة الجامعات[vi] غير المنتمين إلى المؤسسة السياسية، بإنشاء تجمّعات للدفاع عن حقوقهم؛ واجتمع العاملون في مجالات الفن والثقافة[vii] لتأسيس تجمّع؛ وتمّ تشكيل هيئة تضمّ نقابات عدة بديلة، بما في ذلك النقابات المذكورة آنفاً، وهي "تجمّع مهنيات ومهنيين"[viii] اللبنانية، بهدف إعادة إحياء حركة عمّالية نشطة في البلاد قادرة على النضال من أجل حقوقها وتحدّي القوى المترسّخة.
ولا يمكن إنكار أنّ هذه النقابات الجديدة ضرورية لتحقيق أي نوع من التغيّرات الإجتماعية والإقتصادية والسياسية الإيجابية الشاملة في لبنان. وقد أثبتت هذه النقابات بالفعل أنها أكثر قدرة على الدفاع عن حقوق الذين تمثّلهم من النقابات المعترف بها رسمياً، إذ عندما تعرّض أحد الصحافيين الموقّرين إلى الإعتداء على يد بلطجيّة على خلفية كشف رواتب المؤسسة السياسية والمالية في أوائل شهر شباط 2020، أدّت الوقفة الاحتجاجية[ix] التي دعت إليها "نقابة الصحافة البديلة" للتنديد بهذا العمل الشنيع، بدفع المئات من المتظاهرين للنزول إلى الشوارع وضمان تحوّل الإعتداء إلى موضوع تداولته وسائل الإعلام الوطنية.
ورغم أنّ هذه التطوّرات واعدة، فإنّ الوضع ليس وردياً بالكامل. ففي ظلّ انهيار الوضع الإقتصادي والمالي، والتضخّم السريع، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، إلى جانب انفجار 4 آب في بيروت الذي أدّى إلى تفاقم الإنهيار بشكلٍ كبير، بات العمّال في مختلف أنحاء البلاد تحت ضغوط شديدة. وبصرف النظر عمّا إذا كانوا يعملون في الاقتصاد الرسمي أو غير الرسمي، أو إذا كانوا جزءاً من نقابة، أو نقابة بديلة أو غير ذلك، فإنّ العمّال يتعاملون مع التوتّر الشديد والقلق. فالعديد منهم يركّزون بشكل أقلّ على التنظيم، وأكثر على تأمين خبزهم اليومي. كما وأنّ تأسيس النقابات يتطلّب الالتزام بقدر كبير من الوقت والجهود، وتقديم التضحيات، فضلاً عن الإرادة للعمل بشكل جماعي ووضع الغرور والخلافات الشخصية جانباً. وفي خضمّ انهيار متعدّد الأوجه، وجائحة تتطلّب اتخاذ احتياطات جدّية والحدّ من التجمّعات الإجتماعية، فإنّ القيام بذلك ليس بالمهمّة السهلة على الإطلاق. ولكن إذا كانت هذه النقابات البديلة الجديدة ثمرة الثورة، وتمكّنت من النمو في حجمها ونفوذها، فإنّها ستكون البداية لعودة الحركة العمّالية في لبنان - حركة غير طائفيّة، مستقلّة وقويّة تتحدّى بفعاليّة المصالح السياسية والإقتصادية الراسخة.