هل سيتمكّن العنصر البشري والمادي والمعنوي في الأوساط الفنيّة المتضرّرة بشدّة، من التعافي بعد عام 2019-2020 المليء بالمآسي المتعاقبة: الثورة، كوفيد-19، وأخيراً إنفجار دمّر نصف مدينة بيروت؟
إنّ الثقافة، التي تشكّل عنصراً حيوياً في المجتمع الديناميكي، توحّد بين الناس. فعلاوةً على قيمتها الجوهريّة، تقدّم فوائد إجتماعيّة واقتصاديّة قيّمة، وهي القوّة الدافعة وراء تقدّم المجتمع. وقد أدّى إنفجار 4 آب في مرفأ بيروت، إلى تدمير نصف العاصمة ومواقعها الفنيّة والثقافيّة. عاصمةٌ استُنزِفت بالفعل بعد الثورة والفيروس الذي أصابها.
دُمِّرت وأعيد تدميرها ...
عانى لبنان من غزوات متعدّدة عبر الزمن ورغم ذلك ظلّ صامداً. علاوةً على ذلك، إستفاد من هذا المزيج بين الثقافات ليجعله خاصاً به. وقبل عام 1975، النقطة المحوريّة في تاريخ البلاد، شهد لبنان تطوّراً ثقافيّاً وفنيّاً على جميع المستويات. ثمّ اندلعت حرب عام 1975 وكانت بمثابة توقّف شبه تامّ وحتى كلّي لهذه الأنشطة.
إعتباراً من التسعينات وفي العقود التي تلتها، إستعادت الثقافة حقوقها. وعلى الرغم من أنّ الإستقرار كان لا يزال هشّاً، فإن بيروت دخلت القرن الحادي والعشرين من الباب الواسع، لتصبح بذلك منبراً ثقافيّاً دوليّاً. وبذلك، حوالى العام ،2000 غدت المعارض الفنيّة ("Art Lab"، "صفير زملر"، "تانيت"، "Art on 56th"، و"مرفأ" في العام 2015، أو غاليري "عايدة شرفان")، وكذلك الأماكن الفنيّة المعاصرة نقطة التقاء شباب تحرّروا من محرّمات آبائهم. تبعهم المصمّمون الكبار للأزياء، فضلاً عن المسارح مثل مسرح الجميزة، ومسرح "Black Box" لجاك مارون، لضمان الإستمرارية مع مسرح مونو أو مسرح المدينة في الحمرا. وأصبح المرفأ ومحيطه بمثابة شارع الحمرا في السبعينات، ومركزاً للعاصمة.
إعتباراً من 17 تشرين الأوّل 2019، أغلق معرض "عايدة شرفان" أبوابه، مكتفياً بالمساحة التي تمّ تخصيصها منذ فترة طويلة في أنطلياس. واشتكى الآخرون من الأزمة الإقتصادية، ولكنّهم لم يكونوا مستعدّين للإستسلام. من ناحية أخرى، في ما يتعلّق بالفنّ السابع، إضطرّت جمعية متروبوليس، التي استضافت "سينما المؤلّف" بمهرجاناتها الدوليّة، إلى تعليق نشاطاتها وإغلاق أبوابها في صوفيل. وبالنسبة إلى الثنائي ميا حبيس وعمر راجح اللذين أسّسا "مهرجان بيروت الدولي للرقص المعاصر "Bipod"، وهو منصّة رقص دوليّة، وقاما في العام 2019 بإنشاء مركز "Citerne Beirut" في مار مخايل، والذي يتألّف من غرف عدّة متعدّدة الأغراض، فقد اضطُرّا إلى مغادرة البلاد بخيبة أمل.
في 4 آب 2020، فعل الإنفجار في لحظات قليلة ما فعلته الحرب الأهليّة في 20 عاماً: تدمير المشهد الثقافي برمّته، مادياً ومعنوياً، أو تفكيكه. وبالإضافة إلى الخسائر البشريّة (للمهندسين المعماريّين، وأصحاب المعارض، وغيرهم)، تكبدّت مساحات العرض خسائر جسيمة (الأماكن واللوحات). وتضرّر كلٌّ من نهى محرّم، جمانة عسيلي، نائلة كتانة كونيغ، أندريه صفير زملر أو أنطوان حداد (كما حال جميع السكان المنكوبين)، ثم استأنفوا إعادة الإعمار أو تطوير المشاريع المختلفة (المعارض الخارجية، أو أونلاين، وبالتالي لم يتخلّوا عن فنّانيهم، ولا عن البلد).
... ولكن لا تزال صامدة
تضاعفت المبادرات الجماعيّة، فعلى سبيل المثال لا الحصر: نظّمت مبادرة "لبيروت" بالتعاون مع الوفد الدائم للبنان لدى الأونيسكو، في 17 أيلول الفائت، مناقشة عبر الإنترنت بعنوان "ResiliArt Liban" تحت شعار "المتاحف والمعارض الفنيّة من أجل العودة إلى الحياة الثقافيّة في بيروت". وبحسب صحيفة "لوريان لوجور" اليوميّة، "شدّد المتحدّثون على الدور المحوري الذي تلعبه المتاحف والمعارض الفنيّة في بيروت كجسر ثقافي يخدم المجتمع اللبناني وشتاته، فضلاً عن دورها في التماسك الإجتماعي والتعليم والتنمية. وسلّطوا الضوء على تأثير هذه الكارثة وتحديّاتها في القطاع الثقافي اللبناني الذي تضرّر فعلاً من جرّاء الأزمة الإقتصادية وجائحة "كوفيد-19". كما ركّز النقاش على المتاحف المتضرّرة: ما مجموعه ستّة متاحف، بما في ذلك متحف سرسق.
كذلك تمّ إطلاق مبادرة خاصّة أخرى من قبل مركز "Art Nub" بعنوان "إنقاذ تراث بيروت الفنّي"، وهي تعمل مجاناً على ترميم الأعمال المتضرّرة. ونتيجة لذلك، تريد نايلة يارد وكابي معماري إستعادة تراث وطني ضائع. وبالإضافة إلى الأزمة المالية والإغلاق اللذين سبّبتهما جائحة "كوفيد-19"، ألحق إنفجار 4 آب أيضاً أضراراً فادحة بالعديد من الشركات في قطاع السينما والخدمات السمعيّة البصريّة اللبنانية، ممّا أثّر أيضاً على التصوير وعروض ما بعد الإنتاج. وأطلق "المركز الوطني للسينما والصور المتحرّكة" (CNC) في فرنسا، صندوق طوارئ للبنان. الغرض من هذه الخطّة هو تقديم دعم إستثنائي لأفلام أو مشاريع الأفلام الروائية الطويلة السينمائيّة، التي تأخّرت أو توقّفت كتابتها، أو تصويرها، أو عملية ما بعد إنتاجها منذ بداية شهر آب الماضي.
وأخيراً، لا يمكن للمسرح أن يموت بوجود هذه الطاقة لدى عنصره البشري. صحيحٌ أنّ القاعات شهدت تدهوراً خطيراً، لكنّ الديناميكيّة لا تزال موجودة من الناحية العقليّة. في حين أوقف البعض نشاطاتهم الفنيّة مفضّلين تكريس أنفسهم للثورة، قام آخرون بالتأقلم مع حالة التباعد وعاودوا الإبداع... "همسات" هو مشروع مسرحي أونلاين، يقوم حالياً بجمع الأموال لدعم قاعات المسارح المتضرّرة. عسى أن يتمّ إستنساخ هذه المبادرات في الأوساط الفنيّة كافة للنهوض بالثقافة من جديد.