تحوّلت جائحة كوفيد-19 إلى نداء تنبيه على نطاق عالمي. فوسط القرن الحادي والعشرين، أُجبرنا على إعادة النظر في أساليب حياتنا واختياراتنا. إذ إنهار وهمنا بالسيطرة على الطبيعة بفعل فيروس يبلغ عرضه بضعة نانومترات. ولقد أُجبرنا على عمليات الإغلاق التي أبطأت إيقاعنا، بينما مُنحت الأرض بعض الوقت للتنفّس. وبكلّ سرور، شهدنا انخفاضاً كبيراً في مستويات التلوّث والضوضاء. ورأينا النباتات والحيوانات تلج أكثر إلى أماكن محظورة عليها بسبب الإحتلال البشري الراسخ والمهدِّد؛ وهنا تكمن فرصتنا للتصالح مع الطبيعة.
في حين يحاول لبنان التعامل مع تداعيات جائحة كوفيد-19، فإنّه يواجه أيضاً إنهياراً إقتصادياً لم يسبق له مثيل، ممّا يجعل التحدّي أكثر صعوبة. ولكيّ ينهض لبنان مرّةً أخرى، يتعيّن عليه أن ينهض بشكلٍ دائم. وقد ثبُت أنّ الأسلوب القديم للحياة الإستهلاكيّة غير قابل للإستمرار إقتصاديّاً وإجتماعيّاً وبيئيّاً. لذا، يجب علينا التخلّي عن سلوكيات الإنتاج والإستهلاك القديمة واختيار أسلوب حياة مستدام.
علينا أن نعترف بذلك: إنّ الإستدامة لم تعد امتيازاً أو "توجّهاً" يقتصر على بعض الأفراد الواعين بيئيّاً. إنّ الإستدامة الآن، أكثر من أيّ وقت مضى، هي استراتيجيّتنا الجماعيّة الوحيدة للبقاء على قيد الحياة.
ومع ذلك، هناك بصيص أمل في هذه المحنة. فإنّ الإستدامة ليست مكلفة ولا معقّدة. فعلى المستوى الفردي، هي تنطوي على تبنّي أسلوب حياة بسيط وعملي، والإستهلاك المسؤول والمحلّي قدر الإمكان، وإعادة النظر في أولويّاتنا و"حاجاتنا"، وتبنّي عادات مستدامة جديدة، والتخلّي عن أسلوب الحياة الإستهلاكي المسرف "القديم"، وبالتالي إدماج وتيرة حياة جديدة أكثر تناغماً مع الطبيعة.
وعلى المستوى الجماعي، يجب أن نضع استراتيجيّة للنهوض الإجتماعي والإقتصادي بغية تحقيق الإنجازات التالية:
- الإنتاج محليّاً لخفض الواردات مع إعطاء قيمة للموارد المحليّة وخلق فرص العمل،
- ترويج الحرف التقليديّة (التي تخلّينا عنها) بإستخدام المنتجات الطبيعيّة المتاحة،
- تحقيق اللامركزيّة في الأعمال والمؤسسات لتعزيز النهوض الإجتماعي والإقتصادي وتمكين المحافظات والمناطق النائية،
- تمكين القطاع الصناعي وتطويره مع تطبيق التكنولوجيات المستدامة والإنتاج النظيف،
- إعتماد ممارسات وسياسات زراعيّة مستدامة لحماية مواردنا البيئيّة مع ضمان الأمن الغذائي،
- تخفيف الشره الإستهلاكي لدينا (مثل التغليف غير الضروري، والمنتجات الثانوية، إلخ) للحدّ من إنتاج النفايات للفرد الواحد،
- تنفيذ استراتيجيّات إعادة التدوير وإعادة الإستخدام من أصغر (الأسر) إلى أكبر المستويات (مثل الشركات والمؤسسات)،
- الإستثمار في النقل العام للحدّ من التلوّث والضوضاء، ممّا يجعل قطاع النقل فعّالاً وسليماً بيئيّاً،
- إحداث تحوّل نشط نحو الطاقات الخضراء والمتجدّدة،
- تنفيذ التخطيط الحضري الإيكولوجي لتحويل المناطق الحضريّة إلى "مدن خضراء وقابلة للتنفّس"، والحدّ من التلوّث وتعزيز البيئة المعيشيّة لأكثر من 80% من سكان لبنان،
- إعادة النظر في العناصر المؤسّسة للإسكان (المساحات السطحيّة، وإستهلاك الطاقة، والعزل، والمواد، إلخ) والقطاع العقاري للحفاظ على المناظر الطبيعيّة المتبقية لدينا،
- المحافظة على التراث الطبيعي وتعزيز قيمته كركيزة لا تتجزّأ من خطّة الإنعاش المستدام في البلد،
- زيادة المساحات الخضراء من خلال ممارسات التحريج، وإعادة التحريج، والحراجة الزراعية لمكافحة التغيّر المناخي والتدهور البيئي،
- جعل التعليم البيئي أولويّة لتنشئة جيل جديد من مواطنين بيئيّين يتمتّعون بحسّ قويّ عبر الإنتماء والوعي البيئي الأصيل، وهو أمرٌ حيويٌّ للتغيير الثوري الذي نسعى إليه لأمّتنا.
إنّ تاريخ لبنان حافل بسلسلة طويلة من الإنهيارات والصعود تعود إلى 12 ألف سنة حين استقرّت أولى حضارات العالم في بلاد الشام. ومن هنا تأتي شهرته في النهوض المتكرّر من تحت الرماد، وإثبات بأنّه لا ينضب وصامد دوماً.
بيد أنّ هذا التاريخ المضطرب لم يرحم هذه "القطعة الصغيرة من السماء" ومواردها الطبيعيّة التي هي من أثمن رصيدها. فعلى سبيل المثال، إنّ أهمّ رمز نعتزّ به وهو "الأرزة"، هو شاهد حيّ على أقدم إرث للدمار "البيئي" في تاريخ الحضارة. في كتابه “The Lebanon: a history and a diary” (لبنان: تاريخ ومذكّرات) (1860)، وصف ديفيد إيركهارت التحوّل الذي ألحقه سكان لبنان المتعاقبون على المناظر الطبيعيّة كالتالي: "في مكان آخر زرع الإنسان الأرض، وفي لبنان، لقد صنعها"؛ أو بالأحرى "أتلفها".
اليوم، وأكثر من أيّ وقتٍ مضى، حان الوقت لإعادة صنع لبنان.
لذا نعم، سوف ننهض من جديد، لكنّنا "سننهض بشكلٍ مستدام!".