يدور الكلام دومًا حول كيفية ضمان التعايش بين الفئات المختلفة في البلاد وكأنما سبب "اختلافهم- خلافهم" الأساسي هو اعتناق كل فئة منهم لدين مختلف عن الأخرى، في حين أن تنوع الأديان نفسه هو ما يضمن التعايش من دون أن تتمكن أي فئة من فرض نفسها على الأخرى.
لا يمكن لبلاد- وعلى الرغم من أن ليس هناك من أحصى عدد سكانها، أو كم فيها من المنتمين لكل دين أو مذهب- إلا أن تُقسم في حال استحال التعايش، أو أن تفهم أن ما فيها من تنوع هو ما يضمن لكل فئة حقوقها ولحريتها.
وبما أن مساحة البلاد تمنع التقسيم لأسباب اقتصادية أساسًا، فإنه، وعلى الرغم من خروج دعوات تطالب به إلا أنها بقيت على الهامش.
بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن لأي فئة مسلمة في لبنان، مثلا، أن تجرؤ على المطالبة بإقامة دولة "إسلامية" فوق أراضيه لأن غالبية شعبه تنتمي لفئات طائفية ومذهبية أخرى. والعكس صحيح.
كما أن التنوع الديني والمذهبي هو ما جعل لبنان حتى الآن بمنأى عن خروج جماعات "جهادية" أو "متطرفة"، أو "تكفيرية" فاعلة لأنه من المستحيل أن تكسب ما يكفيها من جماهيرية على الأرض تضمن نجاحها.
ويمكن لمن يمشي في بيروت أن يعرف حقا معنى التنوع: في الملبس، في اللهجات، في اختلاف أنواع اللهو، والمقاهي، والأماكن، وفي تجاور الكنائس والمساجد، بالإضافة إلى مظاهر أخرى كثيرة لا تحصى.
إلا أن ذلك "التنوع" الفعلي يكاد يقتصر على بيروت.
فمع الابتعاد عنها تختفي شيئًا فشيئًا مقومات العيش الكريم والمشترك في حده الأدنى: في غياب المستشفيات، والمدارس، والجامعات، والطرق، والمياه، والكهرباء، وفرص العمل، و... الاختلاف.
وإن وجدت فئات اجتماعية- اقتصادية في لبنان- طبقة وسطى- عاملة- برجوازية، فهي تكاد لا تدرك كم ما يجمع في ما بينها، ومدى تأثير كل منها في حال اتحدت للمطالبة بحقوقها الدنيا. فغالبية أبناء تلك الفئات تعطي الأولوية للإنتماء المذهبي- الديني. وحدها الطبقة العليا تدرك ذلك، ويعمل أبناؤها معا لتحقيق مصالحهم، من دون أن يقف اختلاف أديانهم عائقًا.
ما زال هناك بقايا نقابات، ومجموعات تحاول أن تبقي على أواصر الصلة الفعلية، المدنية، التي تجمع بين أبنائها، إلا أن معظمها يبدو على طريق الإندثار لأسباب عدة أبرزها الضغط الممنهج الذي تتعرض له من قبل الفئات الكثيرة المستفيدة من الإنقسام القائم.
لا يمكن لأي دولة في العالم أن ترسي سلمًا أهليًا إن لم تقدم لشعبها الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية. فالفرقة، والخروج على القانون، والتمرّد، والهجرة، وفقدان الإحساس بالإنتماء تتأتى من الإحساس بالاضطهاد وبالحرمان، والظلم والتهميش.
أما الإمعان في العمل على ترسيخ الانقسام، والاستمرار في إضافة فئات مهمشة جديدة، كالمرأة، واللاجئين، واللاجئين الفلسطينيين، وأبناء الأطراف المعزولة، والخريجين البلا عمل، وغيرهم كثيرون- بالإضافة إلى استمرار التغاضي عن القوانين، مرورًا بالموت على أبواب المستشفيات واستشراء الغلاء، وتوزيع الأدوية الفاسدة، وانتشار المخدرات أمام أبواب المدارس وانهيار المباني فوق رؤوس سكانها وصولاً إلى حرمان البشر من المياه والكهرباء – فإن كل ذلك هو ما ينثر البذور التي بالتأكيد لا بدّ أن تقضي على ما تبقى من "سلم أهلي".
يحتاج إرساء السلم الأهلي إلى مؤمنين ببناء دولة تكفل حقوق مواطنيها كافة، ومسؤولين يعتبرون أن ما يتلقونه من أجر هدفه خدمة المواطن. وقد بدأ بعض الأمل يتبدى في الفترة الأخيرة مع انتشار عدد من الجمعيات الأهلية التي لا يستهان بتأثيرها كقوى بدأت تضغط على المشرعين وعلى الساسة، لتحقيق، كل في مجاله، ما يستحقه شعب لبنان من عدالة اجتماعية.