في الأصل التبانة، منطقة واحدة مسالمة يعيش أهلها بألفة ومحبة وتجمع بينهم روابط عائلية على إختلاف مذاهبهم ومللهم وقد عرفت قديماً بـ"باب الذهب"، حيث كانت منطقة إقتصادية من الدرجة الاولى بل المحرك الأول لعجلة الإقتصاد في طرابلس، وخزان المثقفين فقد خرّجت الأطباء والمهندسين ونواب الأمة.
ثلاثون عامًا مرت على الحرب الأهلية إلاّ أن المنطقة التي شهدت فترة من السلم الأهلي إمتدت منذ إتفاق الطائف وحتى العام 2008 لم تستطع أن تنسى جراحها وأن تلغي الرغبة في الثأر، ربما لأنها لم تنجح خلال ثمانية عشر عامًا من السلم أن تعيد بناء ما دمرته سنوات الحرب العجاف ، فالرفاهية تحولت فقراً مدقعًا والطبقة المثقفة هجرتها ولم يبقَ في رحابها سوى جيل بائس ولد في زمن الفاقة وأقصى آماله في الحياة هو أن يعود رب الأسرة إلى المنزل ومعه ما يسد رمق أسرته ويكفيها شرّ العوز.
أمام هذا الواقع كان من السهل أن تعود لعبة الإقتتال إلى قلب المنطقة المنكوبة على الرغم من أن الشريحة الأكبر من الناس ترغب في عودة فترة السلم الأهلي التي ولدت روابط قرابة ومودة بين كلا الطرفين .
إلى جبل محسن وتحديداً إلى حي لطيفة الذي يمتاز بتعايش فريد لكوكبة من الطوائف والمذاهب ولقاء مع عدد من الأهالي تحدثوا خلاله عن الأيام الخوالي والأزمة الحالية وما يستشرفونه في المستقبل القريب والغامض في آن.
لا للطائفية
في حديثٍ مع المدعو خضر، 44 عامًا، قال عن ذكريات طفولته في حارة البقار وتحديداً حارة التنك فيها حيث في عمر السبع سنوات كان يقف إلى جانب أهلها "السنة" عندما يشنون هجومًا بالحجارة على أهالي منطقة الملاحية "العلوية" في جبل محسن.
وعن ذكرياته عن الطفولة وعلاقته مع أهالي التبانة قال:" قبل الحرب كنا نعيش كأهل فهناك مصاهرة بيننا، ومحور جبل محسن والتبانة ليس محورًا واحدًا إنما يضم إلى ذلك المنكوبين والقبة والشعراني والسيدة وكلهم لديهم أقرباء من عندنا. في الآونة الأخيرة بدأت تتعزز الطائفية والمسألة بيننا باتت إقليمية، في السابق كان إذما وقع إشتباك ما يحل عن طريق الدولة والمذنب يقاد إلى السجن أما الآن فإن الأمور بات أكبر زعيم في لبنان عاجزًا عن حلها".
أضاف:"نحن ليس لدينا مشكلة مع أحد ولكن جاءت الجماعات المتطرفة وتدخلت لتزرع الشقاق بيننا".
في العام 1989 جرت مصالحة بين أهالي الجبل وباب التبانة وتم جمع أسلحة الأحزاب وتسليمها للدولة، لانه كان هناك قرار بإعادة بناء الوطن وجاء من قال لا للطائفية، والدين أفيون الشعوب والطائفية مثل الحقنة يأتي من يحقنها داخل الناس فتبدأ المعارك. وخط التماس بين المنطقتين هو خط وهمي يظهر ويختفي كلما دعت حاجة السياسيين والمسألة أشبه بـ CD هناك من يضعه أو يحذفه.
بإختصار إن ما يحصل اليوم هو لتسريع طاولة الحوار فإذا اتفقوا انتهى كل شيء ولكن إذا جاء الإتفاق بحوالي 40% سيحترق لبنان".
الخوف من عودة المعارك
لا ينكر فؤاد، 34 سنة، تعصبه الطائفي فهو أنهى دراسته الجامعية ومع ذلك اضطر لأن يتراجع عن فرصة عمل له في الخارج عرضت عليه، ليكون بالقرب من عائلته في ظل تأزم الأوضاع وهو يتحين الفرصة لعودة المعارك وعن ذلك يقول:" هناك من يسعى لزرع الفتنة بين أبناء الطائفتين، فتراه يخطب بالناس محرضاً علينا مع العلم أننا لبنانيون ولكن تربطنا بسوريا أواصر قربى وعلاقة تاريخية ونحن نحب الرئيس الأسد وهذا رأينا مثلما يوجد في التبانة من يدعم الثورة".
تابع:" نحن إسلام مثلنا مثلهم وعندما يتوفى أحدنا نقرأ عليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وطرابلس مدينة العيش المشترك لجميع الطوائف فهي لن تكون معقلاً للسنة وحدهم فهي حاضنة أبناء الوطن جميعهم".
أما أبو محمود، 30 عاماً، فلديه أقارب من الطائفة السنية من التبانة والميناء فأمه سنية وهو ضد الإقتتال لكنه لا يرى مهربًا من الأمر لأنه في وقت المعارك "تنسى مصارين البطن بعضها" ويقول:" هناك من يقوم بتحريض الناس مذهبيًا، وللأسف لا يسقط في المعارك إلا الأبرياء".
ليست باسمة، 39 عامًا، مقاتلة على الجبهة وإنما هي أم لثلاثة أطفال تخشى على أبنائها من القتل العبثي ومن بذور الحقد التي ينميها الظلم داخل النفوس وعن واقع حياتها في ظل عودة الإشكالات تقول:" إحترق بيتي مرارًا أما جاري فبدأ يسد نوافذ منزله بحجارة الباطون فالقنص يطال كل المنزل، والقناص لا يميز بين محارب وإمرأة أو طفل، ما ذنبي أنا لأمضي حياتي أهرب من مكان إلى آخر؟ ما ذنب جاري بائع القهوة ليصطادوه كالطير ويردوه قتيلاً؟ أصدقائي معظمهم من السنة ولطالما عشنا كأخوة ما الذي يفعلونه بنا؟ أنا مع السلم الأهلي فكان الثمن أن دمر منزلي عن بكرة أبيه واليوم أمضي حياتي في الملجأ".
الإنطباع العام لدى سكان باب التبانة كان أكثر اسودادًا وترقبًا للأسوء، على أنه لم يخل الأمر من وجود بعض المتأملين خيرًا على الرغم من إعتبار أن تجدد الإشتباكات أمر لا بد منه.
يملك علي، 29 سنة، محل لميكانيك سيارات ومنزل في منطقة التبانة وهو متأهل ولديه أولاد، لا يذكر أنه كانت هناك نبرة طائفية بين الناس قبل الـ2008 وعن ذلك يقول:" ترعرعت في منزل غير طائفي ولا يفرق بين مسلم سني أو علوي كما أن عملي في السيارات يحتم علي التعامل مع أناس من مختلف الطوائف ولدي أصدقاء في الجبل وعندما تهدأ الأوضاع أزورهم ويزورونني والحمد الله المعارك لم تؤثر على علاقتي بهم".
ذكريات العيش المشترك
تعرض محمد، 21 سنة، للإصابة في المعركة ما قبل الأخيرة فأحرق أثاث منزله وهو الذي كان يستعد لدخول القفص الذهبي، وعن معاناته مع الإصابة قال:" تم نزع عظام من أنحاء جسدي لإصلاح العطب في رجلي وبت أحمل بطاقة إعاقة".
وعلى الرغم من جرحه البليغ فهو لن يسع لتوريث الكره لأولاده في المستقبل إذ قال:" لن أعلم أولادي أن يكرهوا العلويين ولكن إذا استمر الوضع على حاله سيولد الطفل وهو يحقد على أعداء أهله. أتمنى أن تنتهي المشاكل، إلا أن الحل يكون في إزالة كل السياسيين الموجودين حاليًا والإتيان بطاقم جديد لأن البوتقة الموجودة من مصلحتها استمرار الأزمة".
في العام 1950 جاء خالد عبد الكريم المحيّط، 75 سنة، مع أهله من منطقة المنية إلى باب التبانة، وهو مؤذّن لأحد الجوامع فيها، وعن المنطقة يقول:" زوجتي مسيحية وأنا لا أذكر في حياتي أن كان للطائفية وجود بيننا أو كنّا نميز بين فرد وآخر حتى أن علي عيد وإبنه رفعت أصدقائي. الزعران هم الذين يفتعلون المشاكل، في الماضي كنت أشارك في المصالحات التي تتم بين الأهالي أما الآن فقد بلغت من العمر عتيّا. الحل في رأي بأيدي الزعماء عندما يتفقون ينتهي الخلاف وحين ينزعون السلاح من أنصارهم تحل المسألة".
نحو مصالحة حقيقية
ليس الحديث عن السلم الأهلي والمصالحة من الموضوعات المفضلة لعبد الله، 25 سنة، على الرغم من أنه صاحب محل للدواليب في التبانة لا علاقة له في المعارك وعن السبب يقول:"على أي أساس تتم المصالحة بين الزعامات، ومن كلفهم أن ينوبوا عنّا هل منزلهم تضرر؟ وهل أقاربهم من تعرضوا للقنص؟".
تابع:" اليوم كل مواطن لديه سياسي يدفع له لإفتعال المشاكل وعند وجود المال ينصاع الناس للأوامر من دون تفكير ومن الناحية الأمنية يؤمن الزعيم الغطاء لهم فلا يتعرضون للملاحقة القانونية. فالمثل يقول "قلك مين فرعنك يا فرعون قلو ما لقيت مين يردني"، أما الحقد الموجود لدى الناس فتلغيه مصالحة حقيقية بين الأهالي والقيام بإرضاء كل متضرر من الحروب ومعالجة مشكلة البطالة وتأمين الوظائف للشباب ورعاية مصالحهم ولا حل آخر".