سيرة وسط بيروت من ساحة البرج إلى الداون تاون

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 01 كانون الأول 13 8 دقائق للقراءة
سيرة وسط بيروت من ساحة البرج إلى الداون تاون
بوكس: كانت ساحة البرج أو ساحة الشهداء أو "البلد" أو "الوسط" الممر الإجباري للبنانيين للإنتقال الى خارج بيروت أو للتنقل بين الأحياء البيروتية بوكس:حرب السنتين لم تدمر وسط بيروت فقط، بل وفتت النسيج الإجتماعي للأحياء المحيطة به، لتضيف الى التقسيم الجغرافي تقسيما ديموغرافيا سيبدو من العسير أو شبه المستحيل إعادة لحمته بعد إنتهاء الحرب بوكس: "الداون تاون" هو وسط مدينة غير موجودة، أو بطريقة أخرى، ليس "الداون تاون" وسطا لمدينة بيروت التي تحيط به. بوكس:سيمر وقت طويل قبل أن ينكسر الجدار المرتفع بين "الوسط" واللبنانيين، وسيمر وقت أطول قبل أن "يعتق" ويعود الى صلب النسيج العمراني والإجتماعي المديني

قبل الإنتهاء من بناء جسر فؤاد شهاب المعروف ب"الرينغ" في أوائل الستينات- وهو يربط بين الأشرفية والحمراء، أي شرق بيروت بغربها-وقبل أنتبدأ السيارات بسلوك هذاالجسر كانت ساحة البرج أو ساحة الشهداء أو "البلد" أو "الوسط" الممر الإجباري للبنانيين للإنتقال الى خارج بيروت أو للتنقل بين الأحياء البيروتية. ففي تلك الساحة كانت تتوزع مواقف السيارات والباصات التي تنقل الركاب نحو سائر المناطق اللبنانية.

كبوش التوت

 كان هذا الكاراج الكبير سببا للقاء شرائح مختلفة من اللبنانيين طبقيا وطائفيا. وكان الكاراج والأسواق القديمة الموزعة في قادوميات وزواريب "البلد" تتبادل ضخّ الزوار والزبائن والمارة، فيزدهر الكاراج بسبب الأسواق والعكس. ولا بد أن المستمع الى أغنية صباح "جينا نبيع كبوش التوتضيعنا القلب ببيروت" لا بد أنه سيتخيلها تبيعه في ساحة البرج وقرب الحديقة التي تتوسطها، والتي تبدو في الصور القديمة لبيروت الستينات، مكتظة بالسيارات والمارة والباعة.

وإكتظت ساحة "البرج"بالنُزل التي يأوي إليها القادمون الى بيروت في عمل أو إجازة ممن لا يملكون منازل فيها أو أقارب، وما زال بعضها قائما حتى الآن في أول شارع الجميزة وعلى أطراف شارع مونو وفي منطقة الصيفي. والساحة كانت أيضا محل سكن عائلات بيروتية من مختلف الطوائف، وكانت بسبب لائحة البضائع الطويلة التي تقدمها محلا لتأمين حاجيات سكان بيروت كلهم، ففيها سوق للبهارات على مقربة من سوق الذهب، وسوق للقباقيب على مقربة من سوقي الحبال والملابس المستعملة وسوق السمك قرب سو الأحذية... إلخ. والى جانبهذه الأسواق كان يقع شارع المصارف أو المطاعم أو حانات الغانيات،وتتوزع بينها جميعا صالات السينما وأماكن اللهو والتسلية.

والأسواق هذه كان أعرضها لا يتعدى المترين، تتوزع على جانبيه المحال التي تبيع البضائع نفسها، لذا كانت تنتشر الروائح التي تخلفها البضائع والأجساد المتراطمة والمتزاحمة، وروائح المطاعم التي تقدم أنواع الأطعمة المختلفة المشوي منها والمقلي. وهذه الزحمة والروائح التي تبثها وتلك التنويعات في وظائف المكان، كانت تجعله مكانا حميما، ملئيا بالحياة التي كادت تختصر بيروت كلها بوسطها في الزمن السابق على الحرب.

التنوع السكاني وإنفراطه

كان الوسط محاطا بأحياء تضم لبنانيين من طوائف وطبقات مختلفة. الشيعة والمسيحيون والأرمن في الكرنتينا والنبعة وبرج حمود يخالطهم فلسطينيون. واليهود في وادي أبو جميل، والسنة والشيعة والمسيحيين في رأس النبع وزقاق البلاط ومارالياس والحمراء وعين المريسة.

 والى جانب الخليط الطائفي للطبقات الدنيا والوسطى في وسط بيروت ومحيطها، إختلط أثرياء لبنان والخليج وبعض الأوروبيين في منطقة الفنادق بين الفينيسيا والسان جورج والهوليداي إن وغيرها، وهناك كان يبرز لبنان "الملهى" أو "الواحة في الصحراء" أو الذي وصفه كمال جنبلاط ب"الدكان على البحر"، وهناك كانت تتمظهر الفروقات الطبقية الصارخة بين اللبنانيين، والتي كانت واحدة من أسباب إندلاع الحروب القادمة في ذلك الحين.

كانت الأحياء التي ترفد وسط بيروت وجواره بزواره وزبائنه والملاّكين فيه ذات تنوع طبقي وطائفي كبيرين، حتىبات الوسط ومحيطه أشبه بالمعجن الذي يعجن اللبنانيين ويجمعهم.

الحروب اللبنانية في سنتيها الأولتين (1975-1976) بدت وكأنها تستهدف وسط بيروتومحيطه، فكان الوسط خط التماس الأول الذي يفصل بين شرق بيروت وغربها، وهناك كانت تختصر معارك الحرب اللبنانية بأكملها في بداياتها، وكانت تلك المعارك تترواح بين ساحة الشهداء ومنطقة الفنادق، تارة تتقدم ميليشيات الغرب نحو الشرق وتتوقف عند حدود ساحة الشهداء، وتارة تتقدم ميليشيات الشرق نحو الغرب وتتوقف عند حدود برج المرّ والهوليداي إن. ثم حين إمتد خط التماس بإتجاه طريق الشام والمتحف ثم طريق صيدا القديمة نحو الحدث ومنها الى كفرشيما مقسما بيروت نهائيا الى قسمين (شرقية وغربية)، إنما كان يمتد من من بؤرة وسط البلد، ولو إفترضنا أن خط التماس هذا سلك كهربائي فإن معارك وسط البلد كانت المولد الكهربائي الذي يضخ فيه الكهرباء.

تم تهجير اليهود من وادي أبو جميل الى بلاد الله الواسعة، فحّل في مساكنهم نازحون شيعة ممن هُجروا من النبعة وبرج حمود ومن الجنوب بعد الإجتياح الإسرائيلي الأول، وكثير من هؤلاء إستوطنوا في بلدات ساحل المتن الجنوبي في حارة حريك وبرج البراجنة والليلكي بعدما تم تهجير سكانها المسيحيين منها ومن الوسط وزقاق البلاط والخندق الغميق وبعض أحياء "مونو" نحو التلال الشرقية المشرفة على بيروت، حيث نشأت بلدات ومدن صغيرة تداخلت حدودها وتشابك عمرانها حتى صارت تبدو الآن من الأعلى ومن البحر وكأنها كتلة مدينية واحدة منسلّة من بيروت.

وسط بيروت او سوليدير

 بعد إنتهاء الحروب اللبنانية وتوافق الساسة اللبنانيين على رمي السلاح في إتفاق الطائف، بدأ الحديث عن مرحلة إعادة إعمار ما دمّر، وعلى مشاريع إعادة إعمار لبنان. كان مشروع إعادة إعمار وسط بيروت الذي أطلق بإحتفال غنت فيه فيروز وجمع لبنانيين لم يجتمعوا منذ 15 عاما في ساحة الشهداء، كان هذا المشروع التعبير "الإعلاني" الأول عن إنطلاق مرحلة السلم بين اللبنانيين، وكان الرئيس الراحل غيلة رفيق الحريري يريد أن يجعل بواسطته "بيروت مدينة عريقة للمستقبل".

دعنا من تفاصيل إستلام شركة "سوليدير" لمشروع إعادة إعمار "البلد"، لكن ما يمكن الخوض فيه هو عدد من الأسئلة: هل أرادت سوليدير عبر تخطيطها العمراني والمديني أن تعيد وسط بيروت الى سابق عهده؟ هل يشكل "الداون تاون" بعد عشرين سنة من إنتهاء الحرب مكانا للقاء جميع اللبنانيين وإختلاطهم؟ هل ينتسب وسط بيروت الى النسيج العمراني والإجتماعي لمدينة بيروت؟ هذه أسئلة يطرحها كثير من اللبنانيين.

قد يكون من الظلم مطالبة شركة عقارية كسوليدير إعادة اللحمة بين اللبنانيين، فللحرب جروحها العميقة وليس على عاتق سوليدير رتقها. لكن من الواضح أن العقلية التي أدارت فيها الشركة عملية إعادة الإعمار هي عملية تجارية إستثمارية، لم يكن للشق الإجتماعي فيها أي أثر. وهكذا فإن أسعار المساكن الخيالية في الوسط جعلتها حكرا على اللبنانيين الأكثر ثراء وأقرانهم من أثرياء الخليج العربي، وهؤلاء لا يشترون المساكن ليسكنوا فيها، بل ليستثمرونها أو ليمروا عليها مرورا سريعا لا يترك لهم أثرا في الوسط ولا يسمح للوسط أن يترك فيهم أي أثر. ولذلك يرى البعض في وسط بيروت مكانًا لا يملك أي هوية إجتماعية أوثقافية رغم أنه لا بد من الإعتراف بجمال هندسته خصوصا بالنسبة للأبنية المرممة والتي تركت سوليدير هندستها على ما كانت عليه.

 

محاولات في بداياتها

كان هذا ما هو عليه الأمر حتى سنوات قليلة خلت، من دون أن ننسى تأثير إغتيال الرئيس رفيق الحريري ومن ثم إعتصام معارضي حكومة فؤاد السنيورة الذي إمتد لسنتين من 2006 الى 2008على الإندفاعة التي شهدتها منطقة سوليدير من العام 2000 حتى العام 2005، والتي كانت تعد بأن يتحوّل وسط المدينة الى وسط فعلي ولو إقتصر على الترفيه والأعمال فقط.

إنتبه القائمون على سوليدير الى معضلة إنتساب الوسط الى المدينة وتآلف اللبنانيين معه، لذا قاموا بإفتتاح "أسواق بيروت" المبنى الضخم الذي يضم مئات المحال التجارية والمطاعم، وسيتم إفتتاح عدد من صالات السينما فيه ومراكز للتسلية واللهو لجذب الرواد من فئات عمرية شابة وحديثة،وستفتح مكتبة ضخمة أيضا. وتبدو عملية الجذب الى الوسط التي يؤديها هذا السوق ناجحة حتى الآن، إذ أنه يستقطب لبنانيين منفئات عمرية مختلفة ومن طبقات تتراوح بين الثرية جدا حتي الدنيا، إذا إفترضنا أن العمال الكثر في هذا السوق هم من رواده أيضا.

وقرر مدراء سوليدير نشر مجلة باللغتين العربية والإنكليزية تتناول مواضيع الهندسة والعمران والبيئات المدينية السليمة في بيروت أو في الخارج، وقد تم أستكتاب عدد من الكتاب اللبنانيين والمهندسين المحترفين، وصدرت قبل أشهر. ثم لجأت الشركة الى إفتتاحكورنيش "زيتونة باي" على ضفة المارينا قرب السان جورج حيث مرفأ اليخوت، ورغم أن هذا الكورنيش هو إستعادة "كاريكاتورية" لمنطقة "الزيتونة" القديمة، إلا أنه على الأقل يمنح خيارا لزوار الوسط بأن يمضوا وقتا على ضفافه وليس بالضرورة في داخله كما كان الحال دائما.

في المنطقة البحرية المردومة تم إنشاءمركز للمعارض الفنية وسيتم بناء متحف، في محاولة لخلق حالة ثقافية للوسط وجذب أنواعا مختلفة من الرواد. هذا وغيره كثير من المحاولات التي تقوم بها الشركة لإستعادة وسط بيروت كمكان لتجمع اللبنانيين، لكن المشروع الأهم هو الذي سيتم في ساحة الشهداء والذي لم تعلن شركة سوليدير عنه بعد.

قامت الشركة بتكليف المهندس الإيطالي العالمي رنزو بيانولإقامة مشروع في ساحة الشهداء يقضي بتمديدها غربا نحو البحر. على أن يقام على ضفافها بعض الأبنية بعد ترك مساحات واسعة كأمكنة عامة، كحدائق ومدن ألعاب الأطفال ومكتبات عامة ومساحات لرياضات الهواء الطلق، على أن تكون هندسة هذا المشروع قائمة على فكرة جعله مكانا للقاء لبنانيين من مختلف المناطق والشرائح الإجتماعية والطائفية. ورنزو هو الذي هندس ساحة "بوست دامر" التي تقع في الوسط بين برلين الغربية وبرلين الشرقية. وقامت هندسة هذه الساحة على فكرة التقريب بين البرلينيين بعد طول إنفصال أدى الى إختلاف ثقافي وتفاوت إجتماعي بين الألمان الشرقيين والألمان الغربيين. وقد نفذ هذا المهندس المعروف بحسّه الإنساني العالي وبإهتمامه بالعمران وتأثيره على حياة البشرعددا كبيرا من المشاريع على هذا المنوال.

إذا للمهندس الإيطالي باع طويل في إستخدام الهندسة للتقريب بين البشر، وربما يكون مشروعه في بيروت واحدا من أهم المشاريع التي ستقوم بها سوليدير.

في النهاية ليس أي مكان بمفرده أو رمز يمكنه تثبيت السلم الأهلي أو العيش المشترك الا بتأثير محدود، والحروب الطويلة التي مرت على أمكنة اللبنانيين ونفوسهم لن تنتهي تأثيرتها بسهولة وسرعة، ووسط المدينة الجديد أحد هذه الأمكنة، وقد يمر وقت طويل قبل أن ينكسر الجدار المرتفع بينه وبين اللبنانيين، وقد يمر وقت أطول قبل أن "يعتق" ويعود الى صلب النسيج العمراني والإجتماعي المديني.

A+
A-
share
كانون الأول 2012
أنظر أيضا
01 كانون الأول 2013
01 كانون الأول 2013
01 كانون الأول 2013
01 كانون الأول 2013
أحدث فيديو
الأكثر مشاهدة هذا الشهر
10 كانون الأول 2024 بقلم زهراء عياد، صحافية
10 كانون الأول 2024
بقلم زهراء عياد، صحافية
07 كانون الأول 2024 بقلم نايا فجلون، صحافية
07 كانون الأول 2024
بقلم نايا فجلون، صحافية
تحميل المزيد