هو شخصيّة قويّة، يأسرك بكلامه، لاسيّما حينما يُعبّر عن شعوره بالندم عن كلّ ما ارتكبه خلال سنوات القتال في لبنان، حينما كان المساعد الأبرز لقائد القوات اللبنانيّة إيلي حبيقة.
يروي أسعد شفتري فصولاً من قصص العنف والقسوة، فيرى أنّ أسوأ لحظة بتاريخ الحرب كانت عند مقتل بشير الجميل، كذلك عندما تعرّض لأول محاولة اغتيال. لكنّ شفتري اليوم يرى الأمور بطريقة مختلفة، ويعلم أنّه لا يمكن لفريق لبنانيّ واحد أن يعيش وحده، "فالمسيحي بحاجة إلى المسلم والعكس صحيح".
ينتمي شفتري إلى أسرة تقليديّة من الطبقة الوسطى في شرق بيروت، وكان والده مدير فرع أحد المصارف، وهو يبلغ من العمر 57 عاماً. وقد عاش ردحاً من الزمن متوجّساً من الهيمنة الإسلاميّة في المشرق العربيّ ولبنان، فانخرط في الحرب اللبنانيّة إلى أن خرج منها نادماً، وكرّس حياته لدعوة الشباب إلى عدم الاقتتال والانجرار وراء الأحزاب ومشاريعها التدميريّة. يتحدّث شفتري بإسهاب عن كيفيّة تشرّبه الكره الطائفيّ، عندما كان صبيّاً، ثمّ كيف أصبح شخصيّة بارزة داخل الجماعة المسلحة التي رفعت "لواء الدفاع عن المسيحيين"، وكيف كان ينظّم عمليّات تعذيب واختطاف وقتل ضد أعدائه. ويقول: "في نهاية الأسبوع، كنت أذهب إلى الكنسية، بعد القتل والتعذيب، للاعتراف".
قضيتي كانت لبنان وكيفيّة انتزاعه من المسلمين
يقول شفتري إنّه "كان من المقرّبين جدّاً من فريق العمل غير الظاهر مع بشير الجميل، وبعدها مع إيلي حبيقة، إلى حين توقيع "الاتفاق الثلاثيّ" وتأسيس "حزب الوعد".
وإذ يقول شفتريّ إنّه "لو عاد الزمن به إلى الوراء لكانّ اختلف كلّ شيء"، يُتابع استذكاره للأحداث فيقول: "كانت قضيّتي لبنان مثل ما كنت أنظر إليه، وهو السيطرة المسيحيّة على لبنان، وأكثر من ذلك. لو كان باستطاعتي انتزاع لبنان كلّه من المسلمين لما كنت قصّرت للحظة. وهذا بصراحة، كان نابعاً من خوفي وحرصي على الوطن".
ويُضيف: " أعطى الفرنسيون لبنان الحديث للمسيحيين، وسلّموهم كلّ السلطات لحمايته من الأعداء"، ويستطرد قائلاً: "لم يكن هناك لذّة بقتل لبنانيين، وكان هناك 40 ألف مسلّح فلسطينيّ يملكون مدفعيّتهم، وقد أنشأوا منطقة "العرقوب لاند" (في أقصى الجنوب اللبناني)، وبدأوا بإقامة الحواجز، وخطفوا الكثير من النّاس في ربيع 1973، واضطرّ بعدها الجيش إلى أن يوقف المعارك ضد الفلسطينيين بضغط عربيّ وسوريّ؛ والجيش الذي يُمثل المسيحيين (حسب تعبير شفتري) لم يعد قادراً على الدّفاع عن لبنان. عندها لم يعد أحد قادراً على الدفاع عن لبنان، ولم أكن أفهم أنّ المسلم له حقوق مثل المسيحيّ، ويجب أن يأخذها، وحقّ أن يكون لديه 6 نواب بـ 6 نواب في المجلس النيابيّ، ولم أكن أعتبر أنّ من حقّ رئيس الحكومة أن يكون لديه صلاحيّات أكثر، وقد شعرت بالخوف من أن يقوم الفلسطينيّ بانقلاب على السّلطة وأن يأخذ منّا كلّ شيء".
ويتابع: "عندما انطلقت الحرب الأهليّة، كنت على جهوزيّة تامّة للمشاركة فيها، فالحرب لا تبدأ عند أوّل طلقة، بل بدأت عندما كنت صغيراً، بسبب ما سمعته من أخبار سيّئة عن المسلم، وحول اعتباره فئة ثانيّة بين المواطنين، وأن أماكن سكنه هي مناطق فقيرة. الحرب اللبنانيّة لم تكن "بوسطة" (حافلة) عين الرمّانة، ولم تبدأ بعمليّة عسكريّة هنا أو هناك، فهذه التفاصيل لا تؤدّي إلى حرب أهليّة...".
لم أحلل قتل الفلسطينيين..لكن أنا مع سحب سلاحهم
يرفض شفتري مقولة إنّه "كان يُحلّل مقتل الفلسطينيّ. لم أقل هذه الكلمة في حياتي. ولم أكن أحارب الفلسطينيّ الجالس في بيته أو اللاجىء، بل كنت أحارب من كان يقول إنّ طريق فلسطين تمرّ عبر "جونية".
وهو يرى أنّ الشّعب الفلسطينيّ اليوم مسكين ومظلوم وله حقّ، إلا أنّ منطق الدولة يُوجب سحب سلاحه من المخيّمات الفلسطينيّة، بشرط أن تحميه الدولة اللبنانيّة حماية كاملة، لا أن يتمّ سحب السّلاح منهم، ثمّ تأتي إسرائيل وتقوم بقتلهم". وهو لا يخفي فخره اليوم بما لديه من أصحاب فلسطينيين في الجمعيّة التي أسّسها، والتي تُسمّى "وحدتنا خلاصنا".
مسؤول عن كلّ من قُتل بأمرٍ منّي
وعن أيّام الحرب الأهليّة قال شفتري: "أنا لم أحارب، ولم أُطلق الرصاص على أحد. وقد مارست بعض الأعمال كعامل "لاسلكيّ"، وضمن "سلاح الإشارة" (حل شيفرا، تشفير)، إلى أن دخلت جهازاً يُدعى جهاز المعلومات والاستقصاء". ويُضيف: "لم أواجه أحداً أو أقتل أحداً خلال معركة، لكن من قتلتهم كانوا في سياق ممارستي مسؤوليّاتي الأمنيّة".
يرفض شفتري النّظريّة التي تقول إنّ "الذين شاركوا بالحرب الأهليّة كانوا مجبورين، وأنّه كان هناك مسؤولون فوقهم، وكانت تُلزمنا بعض الدول، أو يأتي البعض بورقة ويُحاسبون عليها. في مرحلة من المراحل لم يأتِ أحدٌ ويطلب منّي القتل. وفي الماضي، كان لدينا قناعة للمشاركة وتحقيق انتصار القضيّة. واليوم نحن نُنادي بألا يتكرّر ما حصل في الماضي، وعلينا أن نفهم موضع الغلط الذي حصل في الماضي، ولو كنا نرى في الآخر إنساناً لما كنّا قتلنا أحداً".
ويُضيف: "لو تعاطينا مع الأمور بشكل مختلف لما حدث الذي حدث، ولكن ليس وضعي يسمح بتبرئة أحد أو اتّهام أحد ما. ولو كان السياسيّون خلال الحرب الأهليّة قد تصرّفوا بعقلانيّة، وأعطوا كلَّ ذي حقّ حقّه، فأخذ المسلم حقوقه من قبل المسيحيّ، بكرامة، ومحبّة، ومن شريك إلى شريكه، ولو أعطى المسلم المسيحيّ الاحترام وحماه من الفلسطينيّ، لما كانت حصلت أيّ حرب، حتّى لو أرادت الأطراف الخارجيّة التدخّل"، ومن أسف أنّنا لغاية اليوم، يُضيف الشفتري "لم نستطع تحصين البلد؛ واليوم ثمة قوتان هما 8 و14 آذار، قد حلّتا مكان المسلم والمسيحيّ، لكنّنا مازلنا قبيلتين ومستعدين أن نذبح بعضنا البعض".
وعن أسوأ قائد في الحرب الأهليّة، يرفض شفتري الإجابة، لأنّه حسب قوله "إنّ الحرب لا تُنسى، ولا يُمكن تقييم الأمور على هذا النّحو. نحن لم نكن نخوض حرب جيوش، فنتذكّر واقعة كذا بوجه كذا. في الحرب الأهليّة الوضع مختلف كليّاً، ويتقلّب كثيراً، ويحصل خلط للأوراق...".
وعن قانون العفو، يعتبر شفتري ان "لا شيء يريح ضميرنا لا قانون عفو ولا غيره، وقانون العفو هو "حل لبناني" وهناك دول اختارت محاكم وكل بلد لديه خبرة معينة في هذا الموضوع والعبرة ليس في الطريقة بل الذين شاركوا في الحرب بماذا هم مستعدون اليوم لتصحيح خطأهم".
شفتري مع كوفي اأنان وديك رفن، نائب رئيس جمعية مبادرات من اأجل التغيير
ويرى الشفتري أن "قانون العفو" أخفق لأنه لم يضع شروطًا على من شاركوا بالحرب الأهلية الا في حال قتلوا من جديد، وخطأ القانون انه لم يقل اننا نعفي لمرة واحدة واخيرة"، لافتا النظر الى انه في حال وقعت حرب أهلية مجددًا يجتمع مجلس النواب ويقوم بعفو من جديد".
ويشدد شفتري على ان الوضع ليس جيدًا والاهتراء بالدولة ومؤسساتها وضعف ايمان الجميع بدولة مركزية على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والتجارية والعلاقات يضعنا أمام خوف.
ويوضح شفتري ان اي حادث كبير يحصل من حولنا من الممكن ان يؤثر على لبنان ... "ونفضل ان نبقى كلبنانيين نفرض سلطتنا دون الحاجة الى اي وسيط".
وعن اختياره لمحاربة ظلم الحرب، يشير شفتري الى انه "تخليت عن كل شيء من بعد ما وعيت وتغيرت وليس الامر انكار ذاتي وبت افضل غيري عليّ ولا ارى نفسي اليوم قويًا ولا احاول ان اضع نفسي رقم واحد بأي شيء اقوم به".
ويتابع: "هي ليست جرأة بل اعتبرتها واجب ولو لم اقم بها لكنت اعتبرتها خطيئة ولم اقم بها لكي "ابيض" سمعتي للترشح للانتخابات ولكن انا لم اقم بهذا الامر بل هدفي توعية الشباب لأن الانسان ينزلق بسهولة".
ويطالب شفتري أن "نعطي الشباب املا بالمستقبل، كي لا يهاجر او يبقى هنا ويرتشي من زعيم ويدربه على حمل السلاح وقسم من عملي اليوم تكفير عن ذنب وتنبيه للآخرين وبناء حجر صغير في هذا الوطن مقابل كل ما دمرت ومستعد للقيام بأي شيء من الممكن ان يدعم البلد".
يقول شفتري انه "مضطر لقبول ردود الفعل السلبية تجاهه، وفي بعض الاوقات يشعر بالجرح لان أصابع الاتهام موجهة اليه بأنه لم يتغيّر". ويضيف: "قمت بجهد كبير لاغير وجهة النظر واقول بيني وبين نفسي ان كان ما زال هناك عيب فيجب تصحيحه".
عن رائحة الدم يقول: "رائحة الدم لا يمكن أن تزول، ولا مشهد الموت، ورأيت مناظر لا أحب ان أستذكرها ، والذي عاش الحرب وانتقل منها لا يمكن أن ينساها".
ولدى طرح سؤال عليه، هل يعتبر نفسه مجرم حرب، يبادر فورا للاجابة: "لم اسأل نفسي هذا السؤال اذا كنت مجرم حرب، وانا لا يهمني ماذا يقول البشر؟ وانا احاول ان اضبط نفسي واصعب واقسى محكمة هي محكمتي الخاصة او محكمة الله وكيف ينظر لي الناس فكل واحد يرى الامور من منظاره الخاص".
يعمل شفتري مهندسًا، ويتمتع بصوت لطيف وعينين كبيرتين، يقول إن تحوله بدأ مع نهاية الحرب، عندما قابل أعضاء في مؤسسة دولية كانت تحمل اسم "إعادة التسليح الأخلاقي"، وكانت تدعو إلى نشر السلام من خلال تغيير الأفراد، وبصورة تدريجية، أصبح من كانوا يشكون في دوافعه السياسية يثقون في إخلاصه.
ويعطي شفتري حوالي 80 من المئة من وقته دون مقابل لهذه الجمعية، ويقوم بجولات على المدارس والجامعات لنشر ثقافة السلم وعدم الانجرار لحرب أهلية ثانية".
كما ان فكرة إنشاء "حزب ما" لا تستهويه، ويؤكد في هذا الإطار، أنه " لا يسعى لتأسيس أي حزب في هذه المرحلة نظرا لما يحتاجه من أمور". ويضيف: " الحزب يعلن برنامجه علنا للناس وللاسف الكثير من برامج الأحزاب اليوم هو ما يقوله الزعيم".
ويخلص شفتري حديثه وهو أكثر قوة وتفاؤلا بتغيير الواقع بالقول: "اثنين يقومون بالحرب الأهلية: السياسيون والشباب، متمنيا ان لا يتشوه جمال الشباب بوحول السياسة، ويجب أن نعمل لإبعاد شبح الحرب من أن يطل من جديد".