وكما أنّ صور هي بلدة القوميين العرب، التي حوصرت في ثورة الـ58 واستشهد فيها محمد الزيّات، أحد رموز القومية العربية في لبنان يومها، فهي واحدة من المدن التي حكمت المشهد النيابي فيها عائلات سياسية من وزن آل الخليل وصفي الدين وشرف الدين من دون أن تختصرها عائلة واحدة أو تيار سياسي بعينه، صور إحدى منطلقات الإمام موسى الصدر في ستينات القرن الماضي، في دعوته إلى إنصاف المحرومين من أبناء طائفته والطوائف الأخرى. وهي كانت أيضًا، في السبعينات والثمانينات، واحدة من المدن التي يمكن لليساريين القول إنّها واحدة من ميادينهم.
بعد التسعين من القرن الماضي، أو بعد تحريرها من الإحتلال الإسرائيلي في العام 1985، أحكمت حركة "أمل" سيطرتها عليها سياسيًا. لكنّ "الإختلاف" ظلّ حاضرًا فيها حتى اليوم، من خلال بيوت ونوادي، منها "منتدى صور الثقافي" الذي يضمّ وجوهًا يسارية وعلمانية وغير حزبية من أمثال منيف فرج وعمر خالد والدكتور ناصر فرّان. إلى نادي التضامن أحد أبرز الأندية الثقافية التي انحازت إلى التيار القومي العربي وتأسس قبل اكثر من 60 عامًا.
في الحيّ المسيحي في صور تجد صور زعيم "القوات اللبنانية" سمير جعجع، وهو حيّ متصل بمرفأ المدينة. وفي حيّ سنّي تجد صور الرئيسين رفيق وسعد الحريري. كذلك هناك وجود أرمنيّ يكون حاضرًا بقوّة في المعارك الإنتخابية، خصوصًا البلدية منها، وهم يزيدون عن ألفي صوت يشاركون في الإنتخابات دوريًا.
في السنوات الأخيرة ثمة من يحاول اغتيال هذا التاريخ. بدأ الأمر بعد حرب تموز 2006. صارت صور، بعد إعلان "جنوب الليطاني" منطقة محرّمة على التواجد العسكري للمقاومة و"حزب الله"، صار منطلقًا لصواريخ مجهولة التوقيع ولتفجيرات حوّلت صور إلى "صندوق بريد".
زاد "صندقة" المدينة مؤخرًا بعد عدد من التفجيرات التي طاول بعضها قوات "اليونيفيل" التي لها تواجد ملحوظ في المدينة، وطاول بعضها الآخر المطاعم والمقاهي، في استهداف واضح لحياة السهر من جهة، ولحياة جنود اليونيفيل من الجهة الأخرى، ربما، على الأرجح. ولكن في الحالين هو استهداف للحيوية السياحية والإقتصادية التي شهدت المدينة أحد أبرز مظاهرها مع تحولها الى مقر للسكن والاقامة لأعداد كبيرة من العاملين في قوات حفظ السلام منذ ما بعد العام 2006.
لكنّ صور مدينة فرضت شروطها، بوحي من تاريخها. فهي مدينة متوسطية مفتوحة على تاريخها بالعناد، وعلى العالم من مرفئها القرطاجيّ الذي بنته أليسار ملكة قرطاج. هي المدينة التي عاندت الإسكندر شهورًا ولم يقضِ عليها إلا محروقة. مدينة عصية على التطويع، ومفتوحة على المستقبل من خلال تنوعّها الذي يحميها.
حتى حركة "أمل" ما زالت مضطرة لمسايرة ظروف الحياة هنا لا بل تحتفي بالمشهد الصوري أمام من يهمهم الأمر باعتباره مشهد ينكن التباهي به لجهة التنوع الذي ينطوي فيه. لذا تستحقّ صور أن تكون المدينة الأكثر تنوعًا في لبنان، بعد بيروت، وتستحق أن تكون عاصمة الجنوب بسبب هذا.
يمكن أن تكون صور المدينة الجنوبية الوحيدة حيث يمكن أن ترى فتاة بملابس السباحة شبه عارية تسبح إلى جانب فتاة محجبة بالكامل تلبس ثيابًا تظهر التزامها الشروط الدينية الإسلامية. على شاطىء صور تجد عشرات الخيم – المطاعم – المقاهي. تجد خيمة تقدّم وتبيع المشروبات الكحولية وتلاصقها خيمة لا تبيع غير العصير.
صور المتنوّعة من آلاف السنين ما زالت تحافظ على تنوّعها، وتبدو هي بوابة الجنوب وعاصمته. فرحابة المدينة ومساحتها ما زالت عصية على الضغوط الإجتماعية منذ الستينات، وعلى الضغوط السياسية (سيطرة الأحزاب) منذ عقود، على الضغوط الأمنية (تفجيرات) منذ أعوام.
على أن هذه المدينة المطبوعة في نمط العيش فيها وفي حياتها الاقتصادية بشرط أساسي يتمثل في الحرية بمعناها الفردي والثقافي، تبدو بخلاف العديد من المدن اللبنانية وفي الجنوب تحديدًا عصية على نمط آخر من الحياة يقصي هذا الشرط. فالمدينة تعرضت خلال العقود الماضية لأسباب سياسية أو بسبب الحروب المتوالية في لبنان والجنوب خصوصًا إلى تهميش هذا القدر الخاص من شرط الحرية لكنها كانت بعفوية تعبر وبخصوصية لم يشاركها فيها أحد من أقرانها أو محيطها، انها عصية على أنماط الحياة الآحادية ذات البعد الواحد، تلك التي تختزلها بفكرة أو سلوك نمطي. كانت قادرة على إظهار أنها معترضة ونابذة لما ينافي رحابتها وانفتاحها النابعين من ثقافة منفتحة على الأفق المتوسطي بكل ما يعنيه من تنوع وتواصل.
ربما تكون واحدة من الأماكن القليلة في لبنان التي يأتيها اللبنانيون، وليس الأجانب، من لبنان كلّه. وربما هذا سبب استهدافها بالتفجيرات والتضييق الأمني والإجتماعي في الأعوام الأخيرة، أكثر من غيرها.
ثمة من يحاول اغتيال صور.