فيروز والخلاف حولها: مساحة تعايش آمن بين اللبنانيين

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 01 كانون الأول 13 6 دقائق للقراءة
فيروز والخلاف حولها: مساحة تعايش آمن بين اللبنانيين
في زمن الحرب الأهلية، نُقل عن فيروز أنها لن تغني في لبنان لحين انتهاء حربه. وعلّل القول بأن كل موقع للغناء سيعيق وصول جزء من المواطنين إليه، لانقسام الناس بين شرقٍ وغربٍ في بيروتٍ متقوقعة خلف المتاريس. بدا للقول حينها في آذان المواطنين المتعايشين مع الموت، صدى يستجلب الإحترام، كأن فيه تذكير بالمنسي في زمن الحرب، أي إمكانيات الحياة بلا حرب، في وقت بدا العنف كسبيل وحيد تسلكه الأيام، ورسا الإستثنائي كمعتاد. معتاد، بين القابعين في عتمة المخابئ، يختارون بين الغرف الأشد بُعداً عن مجرى الهواء والرصاص.

ولم ينسحب القبول لموقف فيروز مطالبةً ضمنية لبقية الفنانين بالإضراب عن الفن، فالحياة تمضي، رغم ما تنساه. ومثلما الناس يحتاجون الأكل والشرب والعمل والدراسة، هم يحتاجون الفن. أما فيروز فاختارت النأي بالنفس، لحين استعادة اللغة المشتركة مع الواقع، فبقيت بمعزل عنه.

لم يعرف لها رأي في السياسة. لم يعرف لها اصطفافٌ، ولو بالهوى. فبقيت أغانيها تستقبل الصباح على مختلف الإذاعات المتحاربة سياسياً، رغم مواقف إبنها الحادّة، وكأنها فُصلت عن السياق، حتى عن إبنها فيه. ومع الوقت، وبينما التلفزيونات والإذاعات تستعيد أرشيفها بوتيرة يومية، بدا وكأن صورتها تذوب في تاريخية الشخصيات التي أدّت أدوارها المسرحية، من بترا إلى زنوبيا، وقد ساعدت على ذلك اللغة الرحبانية المعتمدة في تلك الأدوار، وهي لغة شاعرية، تجرّد الموقف من ماديّته لتخاطب به الخلود. فيروز لا تتحدث عبر الإعلام كثيراً، فالتصقت بصوتها لغة تلك الأدوار، حتى تجرّدت هي، بدورها، من ماديّة وجودها كإنسانة، لتكرّس كرمز.

في سياق الحرب، بدت كحاميةٍ للصورة الكاملة، كزنوبيا التي تُقدم على مواجهة الأمبراطورية الرومانية وحدها، لأنها تسعى إلى حفظ موقفها هذا في سجل التاريخ، وليس إلى الخروج بحلول للحظة الراهنة. وإن كانت فيروز قد انطلقت من دافع شخصي في موقفها الممتنع عن الغناء في زمن الحرب، وهو حق لأي إنسان، فقد بدت اجتماعياً كرمزٍ لن ينخرط في الاضطراريّ ومؤقته المستدام، وكرمزٍ يُتوقّع منه ذلك أيضاً.

ولكن، في مواجهة المحتاجين إلى رمزٍ، وُجد رافضو القدسية في زمن حربٍ بدأت تتخذ لنفسها وجوهاً دينية تبرر القتل وتكافئ عليه. في عيونهم، حُسبت فيروز على المتخيّل في مواجهة المُعاش، وأدينت بالترويج لوطنٍ من غيمٍ لا أساس له على الخريطة الجغرافية، وبصناعة شخصية للبناني أسقطت من مكوّناتها تشتت الهوية، وعنف العلاقات، وكثافة الأزمات. فباتت فيروز، في مخيلة تلك الجماعة، وكأنها خيانةٌ للواقعية، وتكرّست تلك المقاربة في بعض الأطر الثقافية، حتى باتت توحي بأن انتقاماً من الواقع الخانق يتم عبر صورتها: كأنها الملاك المنزّه الذي يريدونه أن يُعجن بأوحال تطحنهم يومياً، ليغنيها بدلاً من التغنّي بطهارة الأرض.

يوم أعلن اتفاق الطائف نهاية الحرب الأهلية، أعلنت فيروز عودتها إلى الغناء، في وسط البلد، وهو موقع اعتبرته جامعاً لشرق العاصمة وغربها، دمّرته النار، وكان يتجهّز لإعادة لإعماره. حينها، بدت وكأنها ستقصّ شريط استعادة المنسي من الحياة، وإعلان افتتاحها كاملةً، لولا أن نسيان الحياة أشدّ سهولة من نسيان الموت.. فقيل لها: "فيروز، قتلتنا مرتين". وعُلّق القول في ملصقات يدوية على جدران العاصمة، خاصة تلك المناهضة لمسيرة إعادة الإعمار المعلنة آنذاك. وإذ اكتفت هي بالصمت وإصدار البيانات المقتضبة حول الحفل الموعود، بدا واضحاً أن الأرض التي ستغني فوقها فيروز لن تكون جامعة، بقدر ما ستزيد التفرقة.. تفرقة ستستمر لسنوات ولن تعرف نهايتها في المجتمع اللبناني، كحربٍ حلّت يوماً بالسلاح، ولم يوقفها صمت المدافع.

تمرّ الأيام مجدداً، ويضحي الخلاف المبدأي خلافاً سياسياً، تبقى فيروز بعيدة عنه، أسوة بفنانين كثيرين، فهدأ النقاش السياسي حولها، لكن الخلاف لم يستكن.

انتقل الخلاف حول موقعها وموقفها إلى خلاف حول مضمون أغانيها في مرحلة ما بعد الحرب، التي صاغها شعرياً وموسيقياً زياد رحباني. هل تليق بها أو لا تليق بها؟ يليق بها أن تغني ارتباك التلاقي بين حبيبين سابقين، فتسأله "كيفك إنت" ولا تنتظر الإجابة؟ أو لا يليق ذلك بها؟ هل يُرضى لها أن تأتي على ذكر "الكميون" في غنائها، أم أن صوتها ليس مخصصاً لقولٍ دنيوي شبيه؟ وفي المقابل، وعلى الرغم من "الكميون"، استمرت إدانة "طوباويتها" و"ملائكيتها".

هنا، لا بد من الإشارة إلى مثابرتها على الترتيل في كنائس الفصح، إذ انسحبت طبيعة الحدث على طبيعتها البشرية، لتضاف إلى سجلٍ منزّه، خاصةً وأن جمهور ترتيلها لم يحدّه أبناء طائفة أو دين، وإنما بدا جامعاً لمواطني بلدٍ اشتهر بطائفيته. فسمع المريدون في صوتها صدى عالم آخر من عوالم الترفّع والخلود، بينما وجد فيه دعاة الواقعية غناءً دنيوياً محبباً يمنح السياق الديني صوتاً بشرياً.

في هذه الثنائية تحديداً، تتضح قدرة فيروز على فعل الشيء وعكسه، ضمن أداء واحد. فهي تزاوج التناقضات في مسيرتها، تماماً كما يفعل وطنها في تاريخه.

كيف؟

فيروز تقف بجمود على خشبة المسرح، لكن تعابير وجهها، وحركة يديها، والتفاصيل، تصنع العكس. وهي بذلك لا تكسر الصورة ولا تكرّسها، تجسّد الترفّع وتشاغب بحقه، في آن.

ثم، فيروز تمدّ الحالمين الطوباويين بحبوبٍ سعيدة من البراءة والقرية والجدّة البعيدة واللوز والعندليب، لكنها أيضاً تقفز إلى الأمام لتكون الأشدّ التصاقاً بإسفلت الحياة اليومية، وهي تغني عن انتظارها الجار وصاحب الدكان أسفل بناية الحبيب، لتسألهما عن "أخباره.. إن شاء الله ما بو شي؟".

وبينما النقاش يحتدّ حول كل ألبوم جديد تصدره، تحافظ هي على صمتها، بما يزكي النقاش ويبقيه معلّقاً بين مختلفين. كأن فيروز مساحة تجاور سلمي بين اللبنانيين: يحبون هذه الأغنية أو تلك، يتحيّزون لهذه المرحلة أو تلك، يستسلمون لها أو يمانعونها، لكنهم يتعايشون مع علاقاتهم المختلفة بها، ويستمرون معها مثلما تستمر بينهم.

في فترة من الفترات، انتشر سؤالٌ لا ينتظر إجابته، حتى بات مع الزمن صالحاً للاستخدام في عدد من النصوص المنشورة. يقول السؤال: هل تذكر متى كانت المرة الأولى التي استمعت فيها إلى فيروز؟

فعلى مر السنين، لم يعد الإستماع إلى فيروز خياراً فنياً يقدم عليه اللبناني، بقدر ما هو جزء غير إرادي من التنشئة، والعيش. في سيارة الأجرة، في المطعم، على الشارع، في الصباح، عبر الراديو، وفي المساء، خلال السهرة.. هناك دائماً مساحة تجتاح عبرها فيروز النفس، وتسكنها كجزء من هوية.

الهويات، ليست حياةً جامدة. هي مساحة اختلاف وخلاف، في لبنان. وهي الفارق بين مواطن يعشق "بحبك يا لبنان يا وطني"، وبين آخر يقتنع بـ"زرت الشارقة وقطر ومسقط جدّة والكويت" كفراً بالبلد وبحثاً عن مصدر رزق. هي الفارق بين عابد لألوهيتها، وبين مطمئن لوجودها، وبين رافض للتنزيه. وهي الفارق الذي يصنع تعايشاً لا حرباً بين لبنانيين، يحددون ضمنها نقاط الالتقاء، كصوتها ومحورية حضوها في القصة اللبنانية، وينطلقون منها إلى الاختلاف، حيث تولد أفكار وتذبل أخرى، بينما تصدر ألبوم جديد، ويُعلن عن حفل جديد لها، تنفذ بطاقاته في لحظة عرضها للبيع.

هي موعد آمن لمن يهواها، تبث في نفسه طمأنينة النقاء في زمن الصعب.

وهي موعد نقاش لمن يتفاداها، تعيد طرح الأسئلة النظرية المعلّقة في زمن الضروري والمؤقت.

وهي، في مختلف الأحوال والأزمنة، إنسانة، مواطنة، مطربة، وقصة، يمتد جمهورها حيثما انتشرت لغة الضاد، ويتعداها إلى جمهور الصوت والموسيقى.

وأينما ذكر اسم لبنان، تكون صوته الأجمل.

A+
A-
share
كانون الأول 2012
أنظر أيضا
01 كانون الأول 2013
01 كانون الأول 2013
01 كانون الأول 2013
01 كانون الأول 2013
أحدث فيديو
الأكثر مشاهدة هذا الشهر
10 كانون الأول 2024 بقلم زهراء عياد، صحافية
10 كانون الأول 2024
بقلم زهراء عياد، صحافية
07 كانون الأول 2024 بقلم نايا فجلون، صحافية
07 كانون الأول 2024
بقلم نايا فجلون، صحافية
تحميل المزيد