وبحسابات بدائية تعتمد على تأريخ اللبناني، فإن الحرب الأهلية دامت خمسة عشر عامًا، ومضى على انتهائها اثنتان وعشرون سنة، ورغم أن سنين السلم تتفوّق عدداً على تلك الخاصة بالحرب بسبعة أعوام، وإذا ما احتسبنا الشهور فقد تصل بسهولة إلى نصف عدد سنين الحرب إلاّ أن الحرب وذكرياتها وتفاصيلها ومصطلحاتها وأثارها لا تزال حاضرة بقوة في الحياة اليومية وتصرفات المواطن اللبناني.
بعض المباني التي لا تزال تحتفظ حتى اليوم بإصابات بالغة ممّا اقترفته قذائف وأسلحة المتحاربين، ويبدو من المستغرب والبديهي في آن كون هذه المباني تقع على خطوط تماس قديمة أو بالقرب منها. وخطوط التماس القديمة لا تزال معروفة تماماً ومتداولة من قبل الجميع، حتى تكاد لا يُذكر اسم أي من المناطق المحيطة بها حتى يُسارع أحدهم إلى التذكير بأنها كانت تشكل دعامة خط تماس ما.
هي المتاريس الرملية والحديدية في الشوارع والأزقة التي رسمت الحدود بين البيروتيتين "الشرقية" و"الغربية"، أُزيلت مع انتهاء الحرب. غاب المشهد الحي عن أرض الواقع ليبقى حيّاً في الأذهان وفي كثير من النفوس. من المتعارف عليه أن خطوط التماس القديمة تشكّلت لتفصل بين المسيحيين من جهة والمسلمين من جهة أخرى، بصرف النظر عن بعض التكتلات السياسية التي كانت ناشئة وتحوي أناس من الطوائف كافة. ومن أجل نجاح فكرة "خط التماس"، فإنه لا بد لهذا الخط من أن يفصل بين مجموعتين متجانستين في الدرجة الأولى، وفي الواقع اللبناني فإنه على الأقل يجب أن يكون الفصل بين منطقتين تحمل كل منهما هوية مذهبية واحدة أو على الأقل طائفية واحدة، ما يضمن نتائج التحكم بأرض الواقع من قبل المتحاربين، فإن هذا التجانس في المنطقة الواحدة يؤدي حتماً إلى تقبّل أهالي هذه المنطقة النتائج الناجمة عن الحرب بسلبياتها أو إيجابياتها، إذ إن ما يجمع بين سكانها "همّ" واحد، و"أولويات" متشابهة، وأراء سياسية متقاربة إلى حد التطباق، وهو ما يسهّل حدوث الدعم اللازم والإسناد والاحتضان للمقاتلين وأنصارهم وهذا ما تطلبه الحروب.
فُكّت المتاريس، وغابت أسماء بعض المناطق عن التداول على أنها من أسس الحرب الأهلية اللبنانية، وفُتحت المعابر، والتقى أفرقاء الصفوف المتقاتلة. إلاّ أن مصطلح خط التماس لا يزال حاضراً في يوميات اللبناني، ليس من منطلق " كي لا ننسى"، وإنما من خلال سهولة استعادته في أي ساعة. وإن كان بعض الخبراء في الشؤون السياسية في لبنان، يرون أن خطوط التماس غُبّ الطلب وجاهزة لتعود إلى موقعها في ساعات قليلة، فهم يستبعدون إعادة إحياء خطوط التماس القديمة نفسها، بسبب تغير الإستراتيجيات والأولويات للفرقاء المتحاربين سابقاً، من دون أن ينكروا تشكُّل خطوطاً جديدة وإن كانوا يرفضون منحها صفة "خط التماس".
الأشرفية - السوديكو، رأس النبع - البسطة، المتحف - العدلية، الطيونة، عين الرمانة - الشياح… وغيرها من المناطق تشكل الكم الأكبر من خطوط تماس قديمة في بيروت الكبرى والتي تقف شاهدة على حرب سرقت الحياة وعزّزت ثقافة الموت والخوف. مناطق خفُتت أسماءها في السنوات الأخيرة وتحديداً منذ اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري عام 2005، لتحتل كورنيش المزرعة – زاروب الطمليس، قصقص – الطيونة، الجامعة العربية، برج أبي حيدر، بربور، عائشة بكّار، خندق الغميق – رأس النبع... وغيرها من أزقة بيروت الصدارة في الأحداث الساخنة التي تطبع البلد، والتي شكّلت أحداث 7 أيار (مايو) 2008 دليلاً صارخاً على جهوزية إعادة إحياء مشاهد الحرب بتفاصيلها، مع فارق طغيان الملامح المذهبية على طبيعتها وبدل أن ينشأ الاقتتال الطائفي بين المسلمين والمسيحيين فإنه يأخذ في هذه الأزقة طابع التناحر المذهبي بين السنة والشيعة.
لا يوافق الكثير ممَن خبِروا الحرب وتفاصيلها العسكرية، على إطلاق تسمية "خط تماس" على هذه الأزقة، ويعتبرون أن ما ينطبق عليها هي تسمية "جيوب"، والجيوب في المعنى العسكري هي تكتلات من نوع واحد يُصار إلى "تحريكها بغية تحقيق هدف معين". وعن التشابه الكبير بين الوسيلة المستخدمة فيها والغاية في إقصاء الآخر أو السيطرة على أرض الواقع من أجل الإقتصاص أو الإنتقام فيرى هؤلاء أن طبيعة هذه المناطق والإختلاط القائم فيها، يحول دون تحوّلها إلى خطوط تماس حقيقية.
ويظهر ما حصل في السابع من أيار (مايو) 2008 خير دليل على أن نظرية خطوط التماس داخل بيروت واهية، بحسب بعض المراقبين من كيفية سيطرة فريق على آخر في وقت سريع، و"سقوط أحياء محسوبة على طرف بيد طرف آخر غريب عن النسيج المتعارف عليه في هذه المناطق"، إذا جاز التعبير. ويعيد هؤلاء الأمر إلى الجيوب المزروعة من الطرفين في مختلف المناطق.
وإن كان الاكتفاء الذاتي على الصعد كافة، شرط من الشروط الأساسية لمنطقة وامتداداتها من أجل إنشاء خط تماس، يفصل بينها وبين منطقة أخرى، وإن كانت هذه الشروط تتوافر في منطقة كالضاحية الجنوبية لبيروت، إلاّ أن المراقبين يستبعدون أن تعود خطوط التماس القديمة إلى الظهور أو أن تتفعّل الجيوب لتتحوّل إلى خطوط تماس حقيقية، مرجعين الأمر إلى أن عوامل الحرب الأهلية تكاد تكون معدومة. وأكثر ما يعتمد عليه هؤلاء في تحليلاتهم الطبيعية المختلطة للتحالفات السياسية على أرض الواقع، الاختلاط (المسيحي – المسلم) والمطعّم طائفياً، في كل من المجموعتين المسيطرتين والمعروفتين بالرابع عشر والثامن من آذار (مارس).
الكلام عن خطوط التماس يبدو عادياً في وطن لا تزال جراحه حيّة إلى درجة يسهل معها إعادة النزيف إليها من كل جانب. خطوط تماس حاضرة في النفوس وفي العمل على تقويض عمليات بيع الأراضي لـ"دخلاء" على منطقة ما، وفي كلام الأطفال، وفي احتفاليات "كي لا ننسى" في 13 نيسان (ابريل) من كل عام... ليظهر مبنى بركات في منطقة السوديكو، الذي لا يزال بانتظار تحويله إلى معلم يحمل ذكرى سنوات ماضية، ليتحوّل هيكله المخترق من أعيرة نارية وقذائف منطلقاً للحوار والتعلّم من أخطاء الماضي... انتظار طال مع تقديم الموعد المرتقب إلى افتتاحه إلى 2014 بعد أن كان عام 2012 وقبلها عام 2010... ليظهر التأجيل المستمر أقرب إلى "سخرية القدر" في وطن يسهل قطع أوصاله!