الحراك المدني لإسقاط النظام الطائفي في لبنان: قراءة في أسباب انكماشه وعدم تحقيقه مكاسب

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 01 آذار 13 7 دقائق للقراءة
الحراك المدني لإسقاط النظام الطائفي في لبنان: قراءة في أسباب انكماشه وعدم تحقيقه مكاسب
الفشل في اسقاط النظام الطائفي مرده إلى غياب المبادرة
شكّلت التظاهرات التي انطلقت عام 2011 للمطالبة بإسقاط النظام الطائفي، محطة بارزة في الحراك المدني في لبنان. لكن، رغم احتلالها حيّزاً من إهتمام اللبنانيين عموماً والإعلام خصوصاً، إلاّ أنها لم تنجح في تسجيل مكاسب، فيما كانت المنطقة العربيّة تحتفل بنجاح شباب الثورات في إسقاط عدد من الأنظمة.

شهد عام 2011 تحوّلاً في المشهد العربي كما يُقال جزافاً، وجرى فيه الإعلان عن تحوّل جذري، إذ يجمع باحثون كبار – ومنهم التونسي هشام جعيط - على أن حراكاً خفيفاً ومتصاعداً ساد الأوساط الشبابيّة العربيّة منذ تسعينيات القرن الماضي. ولكن، لندع التحليلات جانباً ونغوص في المشهد اللبناني في ذلك العام، مستعيدين "المانشيت الحراكيّة" الأبرز، أي التحرّكات المطالبة بإسقاط النظام الطائفي.

 الأحد 27 شباط 2012، انطلقت التظاهرة الأولى وتلتها تظاهرات أخرى شهدت إرتفاع أعداد المشاركين فيها، ليبدو للمرة الأولى منذ أعوام عدة، أن الغاضبين من النظام الطائفي ليسوا أقليّة.

نظام طائفي لتوسيع الشرخ

كان "الهوى العربي" واضح التأثير على الحراك، إثر نجاح الثورتين التونسيّة والمصريّة في الإطاحة بالرئيسين زين العابدين بن علي وحسني مبارك، وكان شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" قد بدأ يتردّد في أكثر من بلدٍ عربي.

تلقف شبّان لبنانيّون الشعار، إذ كان إسقاط النظام بالنسبة إليهم يعني إسقاط بنيته الطائفية التي حكمت لبنان منذ ما يزيد عن سبعة عقود، و"الترجمة اللبنانية للشعار العربي لا تخرج عنه بل تتماهى معه"، وفق أصحاب الحملة. وفي العودة إلى دفتر الملاحظات، يمكن أن يستخرج الصحافي المتابع لذلك الحراك، تصريحات يرددها مشاركون تفيد بأن النظام الطائفي في لبنان أُسّس أصلاً لاحداث إنقسام بين اللبنانيين، وهو يشكل غطاء للفساد الإقتصادي وسوء توزيع الدخل وتراجع عمليات التنمية (بل حتى غيابها)، ويمثّل عنواناً لغياب العدالة الإجتماعية وحماية المنظومة التي تسمح لـ "أمراء الطوائف" وأزلامهم بتقاسم "كعكة البلاد". لذا، فإن عبارة "النظام الطائفي" في الحراك اللبناني، تشكّل المرادف لكلمة "النظام" في الثورات العربيّة.

لماذا فشل التحرّك؟

من جهة أخرى، كان الطابع السلمي للتحركات المحليّة هو وجهة الحراك الوحيدة، فلم يخطر في بال المشاركين أن تتخذ تحركاتهم أي طابع عنفي وصدامي. وهنا التقى شعارهم مع شعار "سلميّة" الذي رفعه المتظاهرون في الميادين العربيّة. وقد واجه بعضهم عُنف السلطات بسلميّة مفرطة، لنتذكر صورة المصلين على "كوبري" القاهرة، فيما كادت خراطيم المياه تقتلعهم من مكانهم.

ثم كان للحراك اللبناني ميّزة ثالثة تشبه التظاهرات المصريّة والتونسيّة – خصوصاً- إذ أن أعداد المشاركين فيه استمرت في التزايد، من بضعة آلاف في التظاهرة الأولى إلى نحو 40 ألفاً بعد آحاد عدة.

ولكنّ ثمّة سؤالاً يتردد في أوساط المشاركين في الحراك والمساندين لهم: لماذا فشل الحراك المدني في تحقيق أي مطلب يتعلّق بإسقاط النظام الطائفي، بينما نجحت ثورات عربيّة في الدفع إلى تنفيذ بعض مطالبها (كإسقاط رأس النظام). الإجابة ستكون من خلال العودة إلى الحراك اللبناني، مع مقارنات بالتحركات المصريّة التي كان تأثيرها كبيراً في الإندفاعة اللبنانيّة، إضافة الى الإعجاب بها الذي يمكن تلمّسه بسهولة. فثمّة متظاهرون سافروا إلى مصر للتعرف إليها "إعجاباً بثورتها" كما ردّدوا لاحقاً، وقام آخرون بالتواصل مع ثوّار من مصر للمشاركة في إطلاق "إتحاد الثوّار العرب". حتى أن بعض منظّمي الحراك اللبناني، كانوا من الناشطين في التواصل مع مختلف ميادين الثورات العربيّة، وجعلوا حراكهم ضد النظام الطائفي من عناوين التحركات في سياق شبكة تواصل شبابيّة عربيّة.

بدت المظاهرة الأولى لعام 2011 (وما تلاها) أكثر تصالحاً مع فئات شعبيّة متنوّعة، عمّا كانت عليها تظاهرات العلمانيين بعد اتفاق الطائف، وذلك من حيث عدد المشاركين والشعارات التي رُفعت. لم تكن تظاهرات "نُخبَة"، الاّ انها نجحت في فرض نفسها عنواناً كبيراً شغل الإعلام المساند للتحرّك أو الرافض له، وهذا ما فشلت التحركات السابقة في تحقيقه. المتابعة الإعلاميّة تمّت بفضل نجاح التحرّك المدني في الخروج من الدائرة الضيّقة. كان يدعى الحراك ضد النظام الطائفي، عبارة سهلة التداول بين الناس، والإسم ليس مجرّد تفصيل بل هو الجزء الأهم من هويّة الحراك. بينما كانت تنتشر في السابق دعوات للمشاركة في الـ "Laique Prade" الحراك الذي انطلق عام 2011، وشكّل مصالحة مع لغة أهل البلاد، لذا انضم إليه شبّان فقراء من مناطق مهمّشة جداً. هذه الملاحظة وردت على لسان عدد من شبّان جاء بعضهم من منطقة حي السلم (جزء من حزام الفقر المحيط ببيروت).

من جهة أخرى، كان الثبات على مطلب إسقاط النظام الطائفي، وإيمان المطالبين به بقدراتهم على تحقيق مطالبهم، واعتقادهم بأن الإستمرار في الحراك يشكل وسيلة ضغط مهمة، دافعاً لعدم الإكتفاء بإطلالة سنويّة واحدة.

لكن هل كان "منسوب" الثبات و"الشعبيّة" كافيين لتحقيق نجاحات في هذا الحراك؟ الإجابة بـ"نعم" غير صحيحة، ونفي تأثير الحراك يحمل الكثير من الظلم. فالنظام الذي أعلن المتظاهرون رغبة في إسقاطه، ليس منفصلاً تماماً عن الواقع الميداني اللبناني. علماً أن الحراك كان مدنياً في مواجهة نظام عرف كيف يتحوّل منذ الإنتداب الفرنسي "شبكة عنكبوتيّة" تمتد خيوطها في الوعي واللاوعي اللبناني، وقد نجح في إفشال كل خطوات الأحزاب التي أرادت إسقاطه. ففي مراجعة لأرشيف الحوادث في لبنان، ظهر لنا عدد كبير من التحرّكات (المدنيّة وغير المدنيّة)، ومنها مثلاً "البرنامج المرحلي للحركة الوطنية" (1975) الرامي إلى علمنة الدولة وإسقاط النظام الطائفي. إذاً، كان الحراك المكثّف عام 2011 محطة متجددة في مواجهة نظام متجذّر في التربة السياسيّة التقليديّة، لذلك كان التحدي صعباً وكان المتظاهرون يدركون هذه الحقيقة جيداً. فمن الإجابات التي كان السائل يقع عليها، ما يشي بإدراك صعوبة المواجهة. وإذا عدنا إلى إجابات دونّاها، نجد من بينها "نحن في مقابل سرطان يتفشّى بعمق"، أو "الأخطبوط الذي نريد إسقاطه"، أو "المواجهة الشرسة"، أو "إنها حملة مدنيّة ضد نظام مستعد أن يدافع عن نفسه بالسلاح". لكن كل ذلك، لم يدفع المتظاهرين إلى اليأس أو مجرد التفكير بتغيير الطابع السلمي المدني لحراكهم، بل زادهم إصراراً على المحافظة على طابعه كما كانوا يرددون في وسائل الإعلام وفي إجاباتهم عن أسئلتنا. لكن العناد الذي أبداه هؤلاء، لم يكن قوياً لدرجة تسمح بتغيير الواقع الذي يرفضونه.

إقتصر على الآحاد!

هنا، يمكن المقارنة بالحالة المصرية. فحين احتل الشبّان معظم الميادين لم يغادروها، بل استمروا في اعتصامهم حتى حققوا مطالبهم، فيما كان الحراك اللبناني يقتصر على أيام الآحاد! في مصر، توقفت كل النشاطات حتى تحقيق مطلب إسقاط الرئيس السابق حسني مبارك، وفي لبنان كان الحراك يؤجل على هامش أجندة المشاركين فيه، الى يوم العطلة!

إزدادت نسبة المشاركين في الحراك اللبناني من حيث العدد وتنوّع الفئات الاجتماعيّة والإقتصاديّة كما ذكرنا، لكنه لم يتحوّل مطلباً شعبيّاً جامعاً. ففي حين كنا نرى في مصر مساندة كبيرة مما يُعرف بـ"الأكثرية الصامتة" للثوّار، حتى وصل الأمر بجزء من "الصامتين" إلى الخروج عن صمتهم والمشاركة في الأيام الأخيرة من الثورة، فيما كان الوضع في لبنان مغايراً تماماً، إذ بدا أن الغالبية غير معنيّة بالحراك ضد النظام الطائفي أو غير مؤمنة بقدرته على تحقيق النجاحات.

غياب المبادرة والإبتكار

خرج المتظاهرون في لبنان من بيوتهم وأبدوا إيماناً مطلقاً بمطلبهم، لكنهم لم يبتكروا وسائل مواجهة، ولم يهدموا الحواجز التي ارتفعت في وجه التغيير. في هذا السياق، يمكن الإستعانة بمثل مصري لتوضيح قضية "الإبتكار" و"هدم الحواجز". في الأيام الأخيرة للتظاهرات المصريّة، تشكّلت من ميدان التحرير في القاهرة، مجموعة من الشبّان (راوحت أعمارهم بين 14 و21 سنة)، أطلقت على نفسها "القلّة المندسّة" (في استعارة للتعبير الذي استخدمه مبارك للتقليل من أهمية المتظاهرين ضدّه). وقرر أفرادها إصدار مجلة لا يموّلها أحد، بل تغذّيها مساهمات لا تتعدى الـ 30 دولاراً. صنعوا مجلتهم بأنفسهم، ووجّهوا من خلالها أسئلة مهنيّة، وجعلوا منها مثالاً ناصعاً لمشروع ديموقراطي، فأصروا على فرد مساحات من مطبوعتهم المتواضعة للشبّان المساندين للرئيس المخلوع، باعتبار أنهم يشكّلون جزءاً من المجتمع المصري ولهم الحق في التعبير عن آرائهم ومشروعهم السياسي. في إحدى المحطات، شعروا أنهم في حاجة إلى الترويج الإعلاني لمطبوعتهم كي تتسع شهرتها ويرتفع عدد الكتاب فيها، فلم يفكروا باستئجار لوحات إعلانيّة، ولا الطلب من التلفزيونات والإذاعات والصحف بإمرار إعلان لهم. لم يفكروا بالوسائل التقليديّة للإعلان، بل خرجوا ليقولوا "جدران المدينة ملك الشعب ونحن منه". فقام فنانو "الغرافيتي" من بينهم، بابتكار رسوم إعلانيّة غير تقليديّة للمجلة لرسمها على جدران المدن والأرياف.

 أما المشاركون في الحراك اللبناني، فلم يبدوا أي قدرة على هدم الحواجز التي تعترض مشروعهم، بل اكتفوا مثلاً بما روته عنهم وسائل الإعلام. لم يبادروا الى إطلاق "صوتهم الخاص" وإعلامهم القادر على النفاذ إلى شرائح لا تشارك في تحركهم، ولم يبتكروا تالياً ما يوسّع حراكهم المدني ويمنحهم دفعاً إضافياً.

أخيراً، يلحظ من يتابع الإجتماعات المؤسسة للتظاهرات، أن الاختلافات في وجهات النظر كانت تسود المنظمين، والرغبة لدى البعض منهم بالإستئثار بالتنظيم أو الحراك، علماً أن هذا الأمر لم يشكل مادة جوهريّة لهدم التحرّك. لكنّ ثمّة خلافاً حول رفع سقف المواجهة (المدنية طبعاً)، يمكن أن يشكّل مثالاً عن الأمور التي أعاقت تطوّر الحراك. فقد خرجت مجموعة من الشبّان أطلقت على نفسها إسم "حلّوا عنا" لترفع صور شخصيّات لبنانية تعتبرها مسؤولة عن إستمرار النظام الطائفي في لبنان. وبدل أن يتم استيعابها في سياق الحراك المتنوّع التيّارات، حاول بعض المنظمين قمعها ورفض وجودها. وقد بدا أن المشاركين في التظاهرات غير متفقين على "سقف" المواجهة. أما في مصر، فقد هاجم المتظاهرون الرئيس مبارك شخصياً ولم يتخلّوا مطلقاً عن شعار "إرحل"، بينما لم يتبنَّ الحراك اللبناني أي مواجهة تسمي المسؤولين بأسمائهم، فبقي هؤلاء في منأى عن المساءلة من المتظاهرين (إجمالاً)، ليتحوّل الشعار عبارة "فضفاضة" تحتاج إلى تبنّي برنامج بديل من النظام القائم، وتستطيع تالياً أن تبتكر وسائل مواجهة مدنيّة وسلميّة، شرط الاّ تكون تقليديّة.

A+
A-
share
آذار 2013
أحدث فيديو
الأكثر مشاهدة هذا الشهر
10 كانون الأول 2024 بقلم زهراء عياد، صحافية
10 كانون الأول 2024
بقلم زهراء عياد، صحافية
07 كانون الأول 2024 بقلم نايا فجلون، صحافية
07 كانون الأول 2024
بقلم نايا فجلون، صحافية
تحميل المزيد