فوضى في الهدم، والإعمار، وإعادة الإعمار! فوضى بدأت مع الحرب الأهلية في لبنان، وتضخّمت بعد اتفاق الطائف وما زالت مستمرة حتى اليوم. فوضى لم يستطع أحد تنظيمها. كل ما أمكن فعله هو مجرّد تحركات، وضغط من المجتمع المدني الذي رفع الصوت مراراً، متسلّحاً بالإعلام. مجتمع مدني يعتمد أساساً على أفراد ناشطين هرعوا ليل نهار إلى المسؤولين في البلديات والمحافظات ووزارة الثقافة لحماية بيت هنا، ومبنى هناك، حديقة هنا ومَعْلم هناك. أحياناً كان كل ما يمكنهم فعله هو الاعتصام، والتنديد والدفع نحو تجميد هدم بعض البيوت، ليعود المستثمر (بالتواطؤ مع المسؤولين)، وينجح هو وجرّافاته في خرق كل القرارت وتسوية بيوت تراثيّة... بالأرض.
ثمّة ناشطون بكوا، صرخوا، رفعوا اللافتات، عقدوا مؤتمرات صحافيّة، وثّقوا بالصور وقدموا الوثائق ليحموا تراث بيروت. من ينسَى تحركات المهندسة المعمارية منى الحلاق لحماية مبنى بركات (المبنى الأصفر) في السوديكو، الذي يتحوّل اليوم إلى متحف بيروت؟ من ينسى كاميرا ناجي راجي التي وظّفها ليوثّق صور بيوت معرّضة للهدم، وعاد في الأيام التالية ليجدها ركاماً؟ ناجي الشاب العشريني الناشط الذي ولد وعاش في شارع لبنان في منطقة الجميزة في بيروت، وعى مبكراً أزمة هدم البيوت القديمة، بعدما طُلب منه ومن عائلته إخلاء منزلهم بسبب الهدّم. يومها تنبّه الشاب إلى أن بيوت بيروت الجميلة في طريقها إلى الزوال.
في العام 2010، كان راجي قد أنهى دراسته هندسة الديكور، وانطلق في البحث عن طريقة للتحرك. وما كان منه إلا أن صمّم بمساعدة مصمّم غرافيك، "لوغو" يتألف من قناطر ثلاث، وأرفقه بجملة تطلب الدعم والتواصل لحفظ تراث بيروت. طبع ألف نسخة من تلك الدعوة وألصقها في كل شوارع العاصمة.
شكلت تلك المبادرة الفرديّة البحتة، نواة "تجمع إنقاذ تراث بيروت - Save Beirut heritage". تجمّع شاب، بات اليوم يضمّ عشرات المتطوعين والفاعلين على الأرض، أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي. استطاع أن يجذب الاهتمام إلى قضية لطالما كانت حكراً على متخصّصين، أو ناشطين من فئة عمرية أكبر، من مهندسين، أو مالكي البيوت التراثية، أو نخبويين مهتمين بهذا الشأن.
سعى هذا التجمع وفق ما يقول راجي إلى "التوعية على معنى التراث، وأهمية البيت التراثي. إذ عادة ما بيدي الشباب تململاً من قضية حماية تراثنا، وكأنما يُهيأ له أن التراث لا يتعدّى كونه جرن كبّة، وبيوت متصدّعة، في حين أنه جزء من هويتنا وصورة بلدنا الحضاريّة. وقد لوحظ في الفترة الأخيرة، وعيٌ لدى هؤلاء بضرورة حماية محيطهم والأحياء ذات الطابع التراثي".
بعد فترة قصيرة من رفع راجي للدعوات طالباً الدعم، تلقى اتصالاً من شاب تبين أنه يعيش على مقربة من بيته. هو جورجيو طراف، العشريني الذي وحّد جهوده مع راجي، وقاما معاً بتنشيط الجمعية واستخدام مواقع التواصل الاجتماعي لعرض صور تفضح هدم بعض البيوت المصنّفة تراثيةً وممنوعة من الهدم. وعبر "فايسبوك" استطاعا جمع نحو عشرة آلاف مؤيد لقضيتهما، يشارك عشرات منهم في تحركات واعتصامات على الأرض بين الفينة والأخرى... وتحديداً كلما استشعروا خطر خسارة بيت تراثي، أو معلم تاريخي مهم.
يلفت طراف إلى أن "هدف التجمّع الأساسي كان تحفيز كل مواطن، وجعله مهتماً، وتحويله إلى مراقب أو "شرطي" يحرس البيوت التراثية أو يخبرنا عمّا تتعرّض له على "الخط الساخن" 71- 011310". ذلك لأنه من الصعب على "المجتمع المدني وحده أن يحمي هذه البيوت، فيما قانون حمايتها قابع في الأدراج، علماً أن مناهجنا الدراسية لا تركز على أهمية هذا التراث أو كيفيّة الحفاظ عليه".
بيت أمين معلوف.. وادعاً
من البيوت التي ندد التجمّع بقرارات هدمها، بالتعاون مع جهات أخرى (من بينها مثلاً، الجمعية اللبنانية لحماية التراث - أبساد، وجمعيات أخرى)، قصر عكر عند زقاق البلاط، والمرفأ الفينيقي في منطقة ميناء الحصن (حيث أصدر وزير الثقافة غابي ليون قراراً شفهياً في 26 حزيران 2012 بالموافقة على رفع العقار عن لائحة الجرد العام للمواقع الأثرية والأبنية التاريخية والتي أدرجه فيها في ٤ نيسان ٢٠١١ سلفه الوزير سليم وردة. ولم ينتظر القائمون صدور القرار في "الجريدة الرسمية" قبل أن يبدأوا فوراً بتدمير المِعلَم)، إضافة إلى ميدان سباق الخيل الروماني (العقار الرقم 1370) في منطقة وادي أبو جميل، وصولاً إلى منزل المفكر والأديب اللبناني أمين معلوف (أصدر وزير الثقافة غابي ليون في بداية السنة قراراً بهدمه).
هذه البيوت والمواقع، وغيرها، تعرّضت للهدم أو التخريب على مرأى من عدسات كاميرات الإعلام، ورغم علم وزير الثقافة الحالي الذي وصف بأنه أكثر وزراء الثقافة تخلياً عن قضية البيوت التراثيّة، بل أكثرهم تراخياً برخص الهدم وإزالة بيوت عن لائحة الجرد العام. علماً أن أحد أبرز نشاطات تجمّع "إنقاذ تراث بيروت" هو التعاون مع وزير الثقافة السابق سليم وردة لتشكيل لجنة متخصصة تمنع اصدار رخص هدم قبل نيل موافقها.
رغم كل ذلك، ما زالت البيوت التراثيّة في كل لبنان، مهدّدة بالزوال. وبات كل يوم، يحمل إلينا خبر "موت" أحدها. هي نوع من جنازة مفتوحة، يصعب الخروج منها. كيف يمكن حماية البيوت القديمة؟ سؤال يوجه دائماً إلى منى الحلاق، التي تعوّل أساساً على المجتمع المدني والأفراد والإعلام. "القانون، لا يحمي هذه البيوت التراثيّة. الناس وحدهم يفعلون. المالكون، والناشطون، والإعلام، لا سيما أنه لا يوجد في لبنان قانون خاص بالمباني التراثية، بل بين أيدينا اليوم قانون خاص بالآثار يعود إلى العام 1933، ومشروع القانون الذي أحيل في حقبة وزير الثقافة السابق طارق متري في العام 2007 على مجلس النواب، ويقترح آلية للعمل وتحديد دور كل جهة مرتبطة بالموضوع، لكنه منذ ذلك الوقت يقبع في أدراج اللجان النيابية".
وتذكرنا بأنه "يصعُب حتى إحصاء ما تبقى من البيوت القديمة التي أحصتها جمعية "أبساد" في العام 1995 لتشجيع المواقع الطبيعيّة والأبنية القديمة في لبنان، بتكليف من وزير الثقافة والتعليم العالي ميشال إده، وحدّدت عددها بـ 1016 عقاراً. وفي العام 1997، عاد رئيس مجلس الوزراء الراحل رفيق الحريري ليكلف المديرية العامة للتنظيم المدني بإجراء الدراسة الأوليّة لمشروع حماية المباني التراثيّة. وأوصت هذه الدراسة بحماية 520 عقاراً في أربع مناطق تتميّز بمجموعات أبنية تراثيّة متجانسة ضمن نسيج مدني متماسك يجعلها ذات قيمة معمارية تاريخيّة على نطاق المجموعة، وتتعدّى القيمة الفرديّة للمباني. ومن ثم اختصرتها دراسة لاحقة لمجلس الإنماء والإعمار قام بها مكتب خطيب وعلمي الى 469، ليتبقى منها 250 بيتاً بعد تقسيم البيوت إلى فئات. A,B,C,D,E وكانت التوصية بحماية الفئات الثلاث الأولى فقط... لكن، حتى البيوت في هذه الفئات، تتعرّض للهدم".
المسح الأخير صدر في شباط 2010 لمرصد "مجال"، وأشار إلى أن "بيروت خسرت 141 مبنى تراثيّاً، كانت مدرجة شتى لوائح التصنيف الذي أجرته "أبساد" في العام 1995 وتلك التي وضعها مكتب "خطيب وعلمي" في العام 1998". ومن نافل القول إن هذا العدد الأخير، ما زال يتعرّض "للحسم" المستمر... في أشهر وسنوات لا تنتهي من "تسوّق" البيوت التراثيّة.