مخيّم‭ ‬الضبيّة‭: ‬كأنّ‭ ‬شيئاً‭ ‬لم‭ ‬يكن؟

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 01 كانون الأول 16 11 دقيقة للقراءة
مخيّم‭ ‬الضبيّة‭: ‬كأنّ‭ ‬شيئاً‭ ‬لم‭ ‬يكن؟
تصوير عليا حاجو
لم‭ ‬أكن‭ ‬أعرف‭ ‬أنّ‭ ‬الحديث‭ ‬مع‭ ‬تلك‭ ‬المرأة‭ ‬سيقودني‭ ‬إلى‭ ‬الاكتشاف‭ ‬الجميل‭ ‬الذي‭ ‬وصلت‭ ‬إليه‭ ‬لاحقاً،‭ ‬وإلى‭ ‬الشعور‭ ‬بألفة‭ ‬ما‭ ‬مع‭ ‬مكان‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬قد‭ ‬زرته‭ ‬قبل‭ ‬لقائها‭ ‬سوى‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭. ‬
عندما‭ ‬رأيتها‭ ‬حاملة‭ ‬عصاها‭ ‬وتجمع‭ ‬القمامة‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬المهجورة‭ ‬التي‭ ‬يرتفع‭ ‬عليها‭ ‬علم‭ ‬الأونروا،‭ ‬قلت‭ ‬لنفسي‭ ‬إنها‭ ‬ستضربني‭ ‬بتلك‭ ‬العصا‭ ‬إذا‭ ‬حاولت‭ ‬الاقتراب‭ ‬منها‭ ‬وسؤالها‭ ‬عن‭ ‬أوقات‭ ‬دوام‭ ‬مسؤول‭ ‬الأونروا‭ ‬في‭ ‬مخيم‭ ‬اللاجئين‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬أُنشئ‭ ‬عام‭ ‬1956على‭ ‬تلة‭ ‬تابعة‭ ‬إدارياً‭ ‬لمحافظة‭ ‬جبل‭ ‬لبنان‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬12‭ ‬كيلومتراً‭ ‬من‭ ‬بيروت‭. ‬مرت‭ ‬من‭ ‬أمامي‭ ‬ولم‭ ‬تلتفت‭ ‬إليّ‭. ‬غيّرت‭ ‬مكان‭ ‬وقوفي‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬أن‭ ‬يمر‭ ‬أحد‭ ‬غيرها‭ ‬فأسأله‭ ‬لكنني‭ ‬تفاجأت‭ ‬بها‭ ‬تتقدم‭ ‬نحوي‭ ‬مستفسرة‭ ‬عما‭ ‬أبحث‭ ‬عنه‭. ‬أجبتها‭ ‬بأنني‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬مسؤول‭ ‬الأونروا،‭ ‬وطلبت‭ ‬منها‭ ‬أن‭ ‬تؤكد‭ ‬لي‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬البناء‭ ‬الذي‭ ‬أقف‭ ‬قربه‭ ‬هو‭ ‬مقر‭ ‬عمله،‭ ‬أجابت‭ ‬بالإيجاب‭ ‬وبأن‭ ‬اليوم‭ ‬سبت،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬المسؤول‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬هنا،‭ ‬وهمّت‭ ‬بدخول‭ ‬منزلها‭ ‬الذي‭ ‬تبيّن‭ ‬أنه‭ ‬ملاصق‭ ‬لمكتب‭ ‬الرجل‭. ‬استوقفتها‭ ‬وقلت‭ ‬إنني‭ ‬صحفي،‭ ‬وهنا‭ ‬انطلق‭ ‬لسانها‭ ‬بالحديث‭ ‬عن‭ ‬المياه‭ ‬التي‭ ‬تختفي‭ ‬من‭ ‬‮«‬الحنفيات‮»‬‭ ‬فجأة،‭ ‬والكهرباء‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تزور‭ ‬بيتها‭ ‬إلّا‭ ‬نادراً،‭ ‬وبعدما‭ ‬انتهت‭ ‬استفسرت‭ ‬عن‭ ‬جنسيتها‭ ‬فأخبرتني‭ ‬بأنها‭ ‬لبنانية،‭ ‬سألتها‭ ‬بسذاجة‭ ‬عن‭ ‬علاقتها‭ ‬بالفلسطينيين،‭ ‬فقالت‭ ‬إن‭ ‬جيرانها‭ ‬فلسطينيون‭ ‬وسوريون‭ ‬ولا‭ ‬مشاكل‭ ‬لها‭ ‬معهم‭ ‬أبداً‭.‬
كنا‭ ‬واقفين‭ ‬على‭ ‬مدخل‭ ‬المخيم‭ ‬تماماً،‭ ‬وكانت‭ ‬تمتد‭ ‬فوقنا‭ ‬يافطة‭ ‬تجمع‭ ‬صورة‭ ‬رئيس‭ ‬حزب‭ ‬‮«‬القوات‭ ‬اللبنانية‮»‬‭ ‬سمير‭ ‬جعجع،‭ ‬وصورة‭ ‬لرئيس‭ ‬‮«‬تكتل‭ ‬التغيير‭ ‬والإصلاح‮»‬‭ ‬العماد‭ ‬ميشال‭ ‬عون‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬بعد‭ ‬أسبوعين‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬اللقاء‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬اللبنانية،‭ ‬وبينهما‭ ‬دعوة‭ ‬لتوحيد‭ ‬الصف‭. ‬لم‭ ‬ينتهِ‭ ‬حديثي‭ ‬معها‭ ‬هنا‭ ‬فأنا‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أتركها‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬توصلني‭ ‬إلى‭ ‬أحد‭ ‬العاملين‭ ‬في‭ ‬‮«‬وكالة‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬لغوث‭ ‬وتشغيل‭ ‬اللاجئين‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأدنى‮»‬‭. ‬سألتها‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬أيامٍ‭ ‬يمكنني‭ ‬أن‭ ‬أجد‭ ‬المسؤول‭ ‬في‭ ‬مكتبه‭ ‬فقالت‭ ‬بأنّ‭ ‬من‭ ‬يعرف‭ ‬أكثر‭ ‬منها‭ ‬هو‭ ‬سمعان‭ ‬عامل‭ ‬النظافة‭ ‬في‭ ‬الوكالة،‭ ‬وأرشدتني‭ ‬إلى‭ ‬درج‭ ‬يوصل‭ ‬إلى‭ ‬بيته،‭ ‬فشكرتها‭ ‬ومضيت‭ ‬بالاتجاه‭ ‬الذي‭ ‬دلتني‭ ‬إليه‭.‬
 
تصوير عليا حاجو
لا‭ ‬توقظ‭ ‬النائم
وصلت‭ ‬الشارع‭ ‬الذي‭ ‬يسكن‭ ‬فيه‭ ‬سمعان‭. ‬سألت‭ ‬عن‭ ‬منزله‭ ‬فأرشدني‭ ‬من‭ ‬سألته،‭ ‬وعندما‭ ‬اقتربت‭ ‬رأيت‭ ‬رجلين‭ ‬واقفين‭ ‬قربه‭. ‬سألت‭ ‬أحدهما‭ ‬عن‭ ‬باب‭ ‬بيت‭ ‬سمعان‭ ‬فأشار‭ ‬إليه‭ ‬بيده،‭ ‬ثم‭ ‬قال‭ ‬إنه‭ ‬سيكون‭ ‬نائماً‭ ‬لأن‭ ‬عمله‭ ‬يبدأ‭ ‬في‭ ‬الصباح‭ ‬الباكر‭ ‬جداً،‭ ‬وحرام‭ ‬أن‭ ‬أوقظه‭. ‬لم‭ ‬أطرق‭ ‬بابه،‭ ‬وقررت‭ ‬أن‭ ‬أعود‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬يومٍ‭ ‬آخر‭. ‬سألني‭ ‬الرجل‭ ‬عما‭ ‬أريده‭ ‬من‭ ‬سمعان‭ ‬فأعدت‭ ‬إجابتي‭ ‬للمرأة،‭ ‬وسألته‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يحب‭ ‬أن‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬المخيم‭. ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬عنده‭ ‬مشكلة‭ ‬في‭ ‬الحديث‭ ‬وفي‭ ‬تسجيله،‭ ‬وهكذا‭ ‬راح‭ ‬جوزيف‭ ‬موسى‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬فناني‭ ‬مخيم‭ ‬الضبية‭ ‬الذين‭ ‬يعرف‭ ‬عنهم‭ ‬الكثير‭ ‬كونه‭ ‬عازف‭ ‬إيقاع،‭ ‬وعن‭ ‬الصعوبات‭ ‬التي‭ ‬يواجهها‭ ‬الفلسطينيون‭ ‬بينهم‭ ‬من‭ ‬عدم‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬السفر‭ ‬للمشاركة‭ ‬في‭ ‬حفلات‭ ‬خارج‭ ‬لبنان،‭ ‬وعدم‭ ‬استفادتهم‭ ‬من‭ ‬الانتساب‭ ‬إلى‭ ‬نقابات‭ ‬الفنانين‭. ‬ومن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الفنانين‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬الكلام‭ ‬عن‭ ‬معاناة‭ ‬آخرين‭ ‬كالطبيب‭ ‬الجرّاح‭ ‬فهد‭ ‬فرح‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يتمكن‭ ‬من‭ ‬فتح‭ ‬عيادة‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬المخيم‭ ‬كون‭ ‬القوانين‭ ‬اللبنانية‭ ‬تمنعه‭ ‬من‭ ‬مزاولة‭ ‬مهنته،‭ ‬فراح‭ ‬يعتمد‭ ‬لتدبّر‭ ‬أحواله‭ ‬على‭ ‬التعاقد‭ ‬مع‭ ‬شركات‭ ‬يعالج‭ ‬موظفيها،‭ ‬وظل‭ ‬يساعد‭ ‬أهل‭ ‬المخيم‭ ‬بعلاجهم‭ ‬مجاناً‭ ‬حتى‭ ‬ضاقت‭ ‬به‭ ‬الحال‭ ‬فغادر‭ ‬لبنان،‭ ‬وبقي‭ ‬لأهل‭ ‬المخيم‭ ‬الراهبات‭ ‬الناصريات‭ ‬اللاتي‭ ‬تقدمِّن‭ ‬مساعدات‭ ‬طبية‭ ‬أولية‭. ‬سألته‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬المخيم‭ ‬مستوصف‭ ‬فقال‭ ‬إن‭ ‬هناك‭ ‬عيادة‭ ‬للأونروا‭ ‬لكن‭ ‬المرضى‭ ‬لا‭ ‬يحصلون‭ ‬منها‭ ‬إلّا‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬حبوب‭ ‬المسكِّنات‭ -‬إن‭ ‬وجدت‭ ‬هذه‭ ‬الحبوب‭ ‬أصلاً‭- ‬وإن‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬المال‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يموت‭ ‬على‭ ‬باب‭ ‬مستشفى‭ ‬بعدما‭ ‬خفّضت‭ ‬الوكالة‭ ‬مساعداتها‭ ‬مؤخراً‭. ‬هنا‭ ‬عاد‭ ‬الحديث‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬بدأ،‭ ‬وبرز‭ ‬اسم‭ ‬الموسيقي‭ ‬راجي‭ ‬الأسعد‭. ‬تحدث‭ ‬جوزيف‭ ‬عن‭ ‬أستاذه‭ ‬الذي‭ ‬توفّي‭ ‬منذ‭ ‬عامين‭ ‬قائلاً‭ ‬إنه‭ ‬مؤلف‭ ‬أغنية‭ ‬‮«‬ماما‭ ‬يا‭ ‬ماما‮»‬‭ ‬التي‭ ‬غناها‭ ‬شاب‭ ‬أرمني‭ ‬في‭ ‬برنامج‭ ‬‮«‬استديو‭ ‬الفن‮»‬‭ ‬التلفزيوني‭ ‬عام‭ ‬1973‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يغنيها‭ ‬جورج‭ ‬وسوف‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬اسم‭ ‬مؤلفها‭.‬
البحث‭ ‬عن‭ ‬روبير‭ ‬الأسعد
في‭ ‬حديثه‭ ‬عن‭ ‬راجي‭ ‬الأسعد‭ ‬أشار‭ ‬جوزيف‭ ‬إلى‭ ‬حفيده‭ ‬روبير‭ ‬الذي‭ ‬ورث‭ ‬من‭ ‬الجد‭ ‬حب‭ ‬الموسيقى،‭ ‬وقال‭ ‬لي‭ ‬إن‭ ‬بإمكان‭ ‬عمه‭ ‬أبي‭ ‬عمر،‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يقف‭ ‬قربه،‭ ‬أن‭ ‬يوصلني‭ ‬إليه‭. ‬ودّعته‭ ‬وانطلقت‭ ‬فوراً‭ ‬مع‭ ‬صديقه‭ ‬إلى‭ ‬منزل‭ ‬الشاب‭ ‬الذي‭ ‬سيصير‭ ‬التحدث‭ ‬إليه‭ ‬بعد‭ ‬رؤية‭ ‬غرفته‭ ‬المكتظة‭ ‬بالآلات‭ ‬الموسيقية‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬بابها‭ ‬الزجاجي‭ ‬هدفاً‭ ‬أقرّر‭ ‬أنّني‭ ‬لن‭ ‬أتنازل‭ ‬عن‭ ‬الوصول‭ ‬إليه‭ ‬كما‭ ‬فعلت‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬سمعان‭.‬
أخذت‭ ‬رقم‭ ‬هاتف‭ ‬أبي‭ ‬عمر،‭ ‬وقلت‭ ‬له‭ ‬إنني‭ ‬سأتصل‭ ‬به‭ ‬لاحقاً‭ ‬كي‭ ‬آخذ‭ ‬موعداً‭ ‬ألتقي‭ ‬فيه‭ ‬ابن‭ ‬أخيه،‭ ‬ومضيت‭ ‬ماشياً‭ ‬بين‭ ‬منازل‭ ‬المخيم‭.. ‬بين‭ ‬أيقونات‭ ‬مريم‭ ‬العذراء‭ ‬المرصوفة‭ ‬على‭ ‬أبواب‭ ‬هذه‭ ‬المنازل‭. ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬الشارع‭ ‬الذي‭ ‬يوصلني‭ ‬إلى‭ ‬خارج‭ ‬المخيم،‭ ‬ومشيت‭ ‬نزولاً‭ ‬باتجاه‭ ‬البحر‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬تمكن‭ ‬رؤيته‭ ‬إلّا‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الشارع‭ ‬بينما‭ ‬يحجبه‭ ‬فندق‭ ‬‮«‬لو‭ ‬رويال‮»‬‭ ‬المنتصب‭ ‬على‭ ‬صخرة‭ ‬على‭ ‬أوتوستراد‭ ‬بيروت‭ - ‬طرابلس‭ ‬عن‭ ‬ساكني‭ ‬شوارع‭ ‬المخيم‭ ‬الأفقية‭ ‬الأربعة‭ ‬المتّصلة‭ ‬بأدراج‭. ‬بدأت‭ ‬تتجمع‭ ‬في‭ ‬رأسي‭ ‬تساؤلات‭ ‬كثيرة‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬قبل‭ ‬40‭ ‬عاماً‭ ‬أحد‭ ‬ساحات‭ ‬الحرب‭ ‬بين‭ ‬‮«‬الحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬اللبنانية‮»‬‭ ‬و«منظمة‭ ‬التحرير‭ ‬الفلسطينية‮»‬‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬والأحزاب‭ ‬اليمينية‭ ‬أولاً‭ ‬ثم‭ ‬هذه‭ ‬الأحزاب‭ ‬والجيش‭ ‬السوريّ‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬والذي‭ ‬كان‭ ‬يتعرّض‭ ‬لقصف‭ ‬مدافع‭ ‬حزب‭ ‬الكتائب‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬مقاتلو‭ ‬هذا‭ ‬الحزب‭ ‬يحاصرون‭ ‬مخيمي‭ ‬تل‭ ‬الزعتر‭ ‬وجسر‭ ‬الباشا‭. ‬كيف‭ ‬نجا‭ ‬مخيم‭ ‬الضبية‭ ‬من‭ ‬المصير‭ ‬الصفر‭ ‬الذي‭ ‬وصل‭ ‬إليه‭ ‬المخيمان‭ ‬الآخران؟‭ ‬كيف‭ ‬يعيش‭ ‬فلسطينيون‭ ‬ولبنانيون‭ ‬وسوريون‭ ‬في‭ ‬رقعة‭ ‬جغرافية‭ ‬صغيرة‭ ‬كهذه‭ (‬0.8‭ ‬كيلومتر‭ ‬مربّع‭) ‬ويبدو‭ ‬بينهم‭ ‬وئام‭ ‬أهل‭ ‬الضيعة‭ ‬الواحدة؟‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬شيوعي‭ ‬شارك‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬اللبنانية‭ ‬مرة‭ ‬إنه‭ ‬لاحظ‭ ‬مع‭ ‬بدء‭ ‬الثورة‭/‬الحرب‭/‬الأحداث‭/‬الأزمة‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬انتشار‭ ‬أخبارٍ‭ ‬كثيرة‭ ‬عن‭ ‬حدوث‭ ‬حالات‭ ‬اغتصاب‭ ‬بين‭ ‬طرفي‭ ‬النزاع،‭ ‬وأن‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الأخبار‭ ‬كانت‭ ‬نادرة‭ ‬طوال‭ ‬15‭ ‬عاماً‭ ‬من‭ ‬الاحتراب‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬وأن‭ ‬هذا‭ ‬برأيه‭ ‬ما‭ ‬سيجعل‭ ‬عودة‭ ‬التعايش‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬أصعب‭ ‬بكثير‭. ‬هل‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬الإجابة؟‭ ‬وهل‭ ‬من‭ ‬يعيشون‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬متعايشون‭ ‬أصلاً؟‭ ‬الحواجز‭ ‬المادية‭ ‬والمعنوية‭ ‬ظاهرة‭ ‬للعيان‭ ‬من‭ ‬شمال‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬الصغير‭ ‬إلى‭ ‬جنوبه،‭ ‬ومن‭ ‬جبله‭ ‬إلى‭ ‬سهله‭. ‬هل‭ ‬الهوية‭ ‬الدينية‭ ‬المشتركة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تجمع‭ ‬قاطني‭ ‬هذه‭ ‬التلة‭ ‬الهانئة؟‭ ‬هل‭ ‬هذا‭ ‬أصلاً‭ ‬تعايش‭ ‬أم‭ ‬هم‭ ‬‮«‬المنتصرون‮»‬‭ ‬يفرضون‭ ‬شروطهم‭ ‬على‭ ‬‮«‬المهزومين‮»‬‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬سيطرتهم؟‭ ‬ربّما‭ ‬هي‭ ‬شؤون‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬تعود‭ ‬لها‭ ‬أولويتها‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تسكت‭ ‬أصوات‭ ‬المدافع‭ ‬والبنادق؟‭ ‬
الأسئلة‭ ‬عن‭ ‬معاني‭ ‬الأمور‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬أكثر‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يجد‭ ‬الإنسان‭ ‬إجابة‭ ‬لها‭ ‬كلها‭.‬
عدت‭ ‬إلى‭ ‬الضبية‭ ‬بعد‭ ‬أسبوعين‭. ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬اتصلت‭ ‬بأبي‭ ‬عمر‭ ‬مساء‭ ‬اليوم‭ ‬السابق،‭ ‬واتفقت‭ ‬معه‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬ألتقيه‭ ‬قرب‭ ‬كنيسة‭ ‬‮«‬مار‭ ‬جرجس‮»‬‭ ‬التي‭ ‬يعمل‭ ‬فيها‭. ‬اتصلت‭ ‬به‭ ‬ثانية‭ ‬بعدما‭ ‬مررت‭ ‬بمكتب‭ ‬الأونروا‭ ‬ووجدته‭ ‬مقفلاً،‭ ‬وعلمت‭ ‬من‭ ‬شاب‭ ‬يعمل‭ ‬في‭ ‬محل‭ ‬تصليح‭ ‬سيارت‭ ‬قريب‭ ‬أن‭ ‬مديره‭ ‬يأتي‭ ‬إلى‭ ‬المخيم‭ ‬يومي‭ ‬الإثنين‭ ‬والخميس‭ ‬فقط‭. ‬لم‭ ‬أسمع‭ ‬صوت‭ ‬صاحبي‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬بل‭ ‬صوت‭ ‬فتاة‭ ‬أظنها‭ ‬ابنته‭ ‬قالت‭ ‬لي‭ ‬إنه‭ ‬نسي‭ ‬هاتفه‭ ‬في‭ ‬المنزل‭. ‬شكرتها‭ ‬وعدت‭ ‬إلى‭ ‬الميكانيكي‭ ‬وسألته‭ ‬عن‭ ‬مكان‭ ‬الكنيسة‭ ‬فأشار‭ ‬إليها‭ ‬بيده‭. ‬هناك‭ ‬سألت‭ ‬عنه‭ ‬فقيل‭ ‬لي‭ ‬إن‭ ‬لا‭ ‬أبا‭ ‬عمرٍ‭ ‬يعمل‭ ‬في‭ ‬المكان،‭ ‬وإن‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬كنيستين‭ ‬أخريين‭ ‬تحملان‭ ‬الاسم‭ ‬نفسه‭. ‬سألت‭ ‬عن‭ ‬مكان‭ ‬إحداهما‭ ‬آملاً‭ ‬أن‭ ‬أجده‭ ‬هناك‭ ‬ولا‭ ‬أضطر‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬الكنيسة‭ ‬الثالثة‭.‬
 
وصلت‭ ‬إلى‭ ‬كنيسة‭ ‬‮«‬مار‭ ‬جرجس‮»‬‭ ‬رقم‭ ‬2‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬الطريق‭ ‬بين‭ ‬المخيم‭ ‬والفندق‭ ‬العملاق‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬أحد‭ ‬في‭ ‬الجوار‭ ‬أكلمه‭ ‬فطرقت‭ ‬الباب‭ ‬الرئيسي،‭ ‬ثم‭ ‬باباً‭ ‬حديدياً‭ ‬جانبياً‭ ‬سمعت‭ ‬من‭ ‬ورائه‭ ‬صوتاً‭ ‬بعث‭ ‬فيّ‭ ‬الأمل‭. ‬انفتح‭ ‬الباب‭. ‬‮«‬عم‭ ‬بدوِّر‭ ‬على‭ ‬أبو‭ ‬عمر‮»‬‭. ‬أُقفل‭ ‬الباب‭ ‬في‭ ‬وجهي‭. ‬ضحكت‭ ‬ومضيت‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬الكنيسة‭ ‬رقم‭ ‬3‭ ‬‮«‬في‭ ‬أعلى‭ ‬الجبل‭. ‬قرب‭ ‬مشروع‭ ‬القوات‮»‬‭. ‬لم‭ ‬ألمح‭ ‬أحداً‭ ‬في‭ ‬ذاك‭ ‬المكان‭ ‬المنعزل‭ ‬المتعالي‭ ‬الذي‭ ‬وصلت‭ ‬إليه‭ ‬وعدت‭ ‬منه‭ ‬بصحبة‭ ‬سائقٍ‭ ‬ظريف‭ ‬وصوت‭ ‬وديع‭ ‬الصافي‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬إذاعة‭ ‬‮«‬صوت‭ ‬لبنان‮»‬،‭ ‬ولم‭ ‬ينفتح‭ ‬لي‭ ‬أي‭ ‬باب‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭. ‬طلبت‭ ‬من‭ ‬السائق‭ ‬أن‭ ‬يعيدني‭ ‬إلى‭ ‬المخيم‭ ‬فكان‭ ‬ذلك‭. ‬عدت‭ ‬إلى‭ ‬الكنيسة‭ ‬الأولى‭ ‬وسألت‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬فقال‭ ‬لي‭ ‬رجل‭ ‬ستيني‭ ‬إن‭ ‬هناك‭ ‬ديراً‭ ‬في‭ ‬الأعلى‭ ‬ربما‭ ‬يكون‭ ‬أبو‭ ‬عمر‭ ‬فيه‭. ‬صعدت‭. ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الطريق‭ ‬كان‭ ‬مبنى‭ ‬إذاعة‭ ‬‮«‬صوت‭ ‬لبنان‮»‬‭ (‬اكتشفت‭ ‬لاحقاً‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬المبنى‭ ‬لا‭ ‬يعود‭ ‬لحزب‭ ‬الكتائب‭ ‬بل‭ ‬لـ«الشركة‭ ‬العصرية‭ ‬للإعلام‮»‬‭ ‬التي‭ ‬اتخذته‭ ‬مقراً‭ ‬لها‭ ‬بعد‭ ‬النزاع‭ ‬مع‭ ‬الشركة‭ ‬التابعة‭ ‬للحزب‭ ‬انتهى‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أصبح‭ ‬لمستمعي‭ ‬الراديو‭ ‬إذاعتان‭ ‬تحملان‭ ‬الاسم‭ ‬نفسه‭). ‬انعطفت‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬المبنى‭ ‬فظهر‭ ‬لي‭ ‬صليب‭ ‬في‭ ‬الأعلى‭. ‬رحت‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬باب‭ ‬يدخلني‭ ‬إلى‭ ‬الدير،‭ ‬لكن‭ ‬كل‭ ‬البوابات‭ ‬الحديدية‭ ‬بدت‭ ‬غير‭ ‬مستعملة‭. ‬نظرت‭ ‬إلى‭ ‬الأعلى‭ ‬فرأيت‭ ‬رجلاً‭ ‬يسقي‭ ‬الأرض‭. ‬لوّحت‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬بعيد‭ ‬فاقترب‭ ‬نحوي‭. ‬سألته‭ ‬عن‭ ‬مدخل‭ ‬الدير‭ ‬فدلني‭ ‬بلهجة‭ ‬مصرية‭. ‬سألته‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬أبو‭ ‬عمر‭ ‬يعمل‭ ‬هنا‭ ‬فردّ‭ ‬بالنفي‭. ‬لوحت‭ ‬له‭ ‬مودّعاً‭ ‬وأدرت‭ ‬ظهري‭. ‬من‭ ‬هناك‭ ‬بدت‭ ‬منازل‭ ‬المخيم‭ ‬متشابهة‭ ‬جداً‭ ‬لا‭ ‬بروز‭ ‬لأحدها‭ ‬على‭ ‬غيره،‭ ‬وبدا‭ ‬الفندق‭ ‬صغيراً‭ ‬جداً‭ ‬وبعيداً‭ ‬جداً‭. ‬البحر‭ ‬بدا‭ ‬قريباً‭ ‬جداً‭ ‬بدوره‭. ‬فكرت‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬أخرج‭ ‬كاميرتي‭ ‬لألتقط‭ ‬صورة‭ ‬لكنني‭ ‬تذكرت‭ ‬ما‭ ‬أعلمتني‭ ‬به‭ ‬زميلتي‭ ‬المصورة‭ ‬عليا‭ ‬حاجو‭. ‬كانت‭ ‬مهمة‭ ‬التقاط‭ ‬صورٍ‭ ‬للمخيم‭ ‬التي‭ ‬بدأتها‭ ‬قد‭ ‬توقفت‭ ‬بأن‭ ‬طُلب‭ ‬منها‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬إذن‭. ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬يحدث‭ ‬ما‭ ‬يوقفني‭ ‬هنا‭ ‬فتركت‭ ‬تلك‭ ‬اللقطة‭ ‬وتركت‭ ‬المخيم‭ ‬على‭ ‬نية‭ ‬العودة‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬التالي،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬حدث‭. ‬
هذه‭ ‬المرة‭ ‬قررت‭ ‬ركوب‭ ‬سيارة‭ ‬أجرة‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬أتأخر‭ ‬على‭ ‬موعد‭ ‬أخذته‭ ‬من‭ ‬أبي‭ ‬عمر‭ ‬في‭ ‬الليلة‭ ‬السابقة‭. ‬قبل‭ ‬ركوبي‭ ‬انتبهت‭ ‬إلى‭ ‬صورة‭ ‬ضخمة‭ ‬للجنرال‭ ‬ميشال‭ ‬عون‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الأوتوستراد‭ ‬البحري‭ ‬تكاد‭ ‬تخفي‭ ‬‮«‬لو‭ ‬رويال‮»‬‭ ‬كتب‭ ‬تحتها‭ ‬بأحرف‭ ‬كبيرة‭ ‬‮«‬التاريخ‭ ‬يحب‭ ‬الأقوياء‮»‬‭. ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬صعوداً‭ ‬سألت‭ ‬السائق‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬يعرف‭ ‬أحداً‭ ‬يسكن‭ ‬المخيم‭ ‬منذ‭ ‬وقت‭ ‬طويل‭ ‬تحسباً‭ ‬للمفاجآت،‭ ‬فقال‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أسأل‭ ‬عن‭ ‬الحلاق‭ ‬إلياس‭ ‬أبو‭ ‬مرعي‭. ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬المخيم‭ ‬واتصلت‭ ‬بأبي‭ ‬عمر‭ ‬فأتاني‭ ‬صوته‭ ‬متململاً‭ ‬وموبّخاً‭ ‬على‭ ‬التأخر‭. ‬اعتذرت‭ ‬منه‭ ‬وفكرت‭ ‬بالذهاب‭ ‬لرؤية‭ ‬الحلاق‭ ‬لكنني‭ ‬انتبهت‭ ‬إلى‭ ‬أنني‭ ‬أعرف‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬منزل‭ ‬روبير‭ ‬وشتمت‭ ‬حماقتي‭ ‬التي‭ ‬جعلتني‭ ‬أمضي‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬بحثٍ‭ ‬بدت‭ ‬عبثية‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬الفائت‭ ‬لكنها‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬كذلك‭ ‬إذ‭ ‬أنها‭ ‬جعلتني‭ ‬أعرف‭ ‬بشكلٍ‭ ‬أكبر‭ ‬المجال‭ ‬الذي‭ ‬أتحرك‭ ‬فيه‭ ‬منذ‭ ‬شهر‭. ‬مشيت‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬الذي‭ ‬كنت‭ ‬أعلم‭ ‬أنه‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬صعباً‭. ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الزاروبة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬فيها‭ ‬منزل‭ ‬ضالتي‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬عناء،‭ ‬وكان‭ ‬منزل‭ ‬سمعان‭ ‬الدليل‭ ‬على‭ ‬كوني‭ ‬أسير‭ ‬في‭ ‬الاتجاه‭ ‬الصحيح‭. ‬كان‭ ‬باب‭ ‬روبير‭ ‬مفتوحاً‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭.‬
المزيد‭ ‬من‭ ‬الأسئلة
لم‭ ‬أكن‭ ‬أعرف‭ ‬شيئاً‭ ‬عن‭ ‬روبير‭ ‬سوى‭ ‬أنه‭ ‬حفيد‭ ‬راجي‭ ‬الأسعد،‭ ‬مؤلف‭ ‬أغنية‭ ‬‮«‬ماما‭ ‬يا‭ ‬ماما‮»‬‭ ‬المنسي‭. ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أتوقع‭ ‬أنني‭ ‬سألتقي‭ ‬شاباً‭ ‬لم‭ ‬يتجاوز‭ ‬عمره‭ ‬الـ18‭ ‬عاماً‭ ‬يعمل‭ ‬في‭ ‬استديو‭ ‬تسجيل‭ ‬صوتي،‭ ‬ويعزف‭ ‬على‭ ‬ثلاثة‭ ‬عشر‭ ‬آلة‭ ‬موسيقية،‭ ‬ويطمح‭ ‬إلى‭ ‬تعلم‭ ‬العزف‭ ‬على‭ ‬المزيد‭ ‬منها‭... ‬يكتب‭ ‬ويلحّن‭ ‬ويغنّي‭. ‬انطلق‭ ‬حواري‭ ‬معه‭ ‬سريعاً‭. ‬علمت‭ ‬أن‭ ‬عمه‭ ‬لم‭ ‬يخبره‭ ‬شيئاً‭ ‬عني‭ ‬فعرّفته‭ ‬بنفسي،‭ ‬ثم‭ ‬سألته‭ ‬فوراً‭ ‬عن‭ ‬بداية‭ ‬علاقته‭ ‬بالموسيقى‭. ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬عمره‭ ‬خمس‭ ‬سنوات‭ ‬سمع‭ ‬أغنية‭ ‬‮«‬غنّيلي‭ ‬شوي‭ ‬شوي‮»‬‭ ‬من‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬مع‭ ‬جده‭ ‬فراح‭ ‬يغني‭ ‬معها‭. ‬طلب‭ ‬منه‭ ‬جده‭ ‬أن‭ ‬يعيد‭ ‬الغناء‭ ‬وظل‭ ‬يعيد‭ ‬الطلب‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أوقفه‭ ‬على‭ ‬مسرح‭ ‬يغنّي‭ ‬‮«‬شوي‭ ‬شوي‮»‬‭ ‬للجمهور‭. ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬رأى‭ ‬على‭ ‬التلفزيون‭ ‬مع‭ ‬والده‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬تغنّي‭ ‬الأغنية‭ ‬نفسها‭ ‬فبكى‭ ‬واعترض‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬تغنّي‭ ‬أغنيته‭. ‬هكذا‭ ‬تحدد‭ ‬مساره‭ ‬الذي‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تعلم‭ ‬الموسيقى‭ ‬مع‭ ‬الأستاذ‭ ‬روبير‭ ‬لمع‭ ‬في‭ ‬بيروت‭. ‬كان‭ ‬جده‭ ‬الداعم‭ ‬الأكبر‭ ‬له،‭ ‬وعندما‭ ‬فقده‭ ‬دخل‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬اكتئاب‭ ‬لم‭ ‬تنته‭ ‬إلّا‭ ‬مؤخراً‭ ‬بمساعدة‭ ‬شغفه‭ ‬الموسيقي‭. ‬هذا‭ ‬الشغف‭ ‬مشترك‭ ‬في‭ ‬العائلة‭ ‬فوالده‭ ‬وعمه‭ ‬عازفان‭ ‬وعمته‭ ‬مغنية،‭ ‬وهذا‭ ‬الشغف‭ ‬أتاح‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أسمعه‭ ‬يعزف‭ ‬على‭ ‬البيانو‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الصباح،‭ ‬وأراه‭ ‬يمسك‭ ‬عود‭ ‬جده‭ ‬المتروك‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬لحظة‭ ‬وفاته‭ ‬مع‭ ‬التماعٍ‭ ‬في‭ ‬العيون،‭ ‬وأسمع‭ ‬أغنية‭ ‬‮«‬بيت‭ ‬صغيّر‭ ‬ببلد‭ ‬منو‭ ‬لإلي‮»‬‭ ‬التي‭ ‬ألّفها‭ ‬ولحّنها‭ ‬والتي‭ ‬يعبّر‭ ‬فيها‭ ‬عن‭ ‬غصة‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬‮«‬وطن‭ ‬بديل‮»‬‭. ‬سماع‭ ‬هذه‭ ‬الأغنية‭ ‬جعلني‭ ‬أسأله‭ ‬عن‭ ‬انتماءاته‭ ‬وعلاقته‭ ‬بالمكان‭ ‬الذي‭ ‬يعيش‭ ‬فيه،‭ ‬فعبّر‭ ‬عن‭ ‬حب‭ ‬للبنان‭ ‬الذي‭ ‬احتضنه‭ ‬وتعلقٍ‭ ‬بالمخيم‭ ‬وأهله‭. ‬انتهى‭ ‬لقائي‭ ‬به‭ ‬بعدما‭ ‬حدّثني‭ ‬عن‭ ‬فرقته‭ ‬‮«‬جازبيات‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تدمج‭ ‬في‭ ‬اسمها‭ ‬الجاز‭ ‬المنفلت‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬القواعد‭ ‬والبيات‭ ‬الشرقي‭ ‬الصارم،‭ ‬وعن‭ ‬طموحه‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يحصل‭ ‬على‭ ‬دكتوراه‭ ‬في‭ ‬فلسفة‭ ‬الموسيقى‭ ‬تمكنه‭ ‬من‭ ‬افتتاح‭ ‬معهد‭ ‬لتعليم‭ ‬الموسيقى‭ ‬للفلسطينيين‭ ‬واللبنانيين‭.‬
ودّعت‭ ‬روبير‭ ‬وأنا‭ ‬أعرف‭ ‬أنني‭ ‬سأعود‭ ‬لزيارته‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬ما،‭ ‬وانطلقت‭ ‬إلى‭ ‬محل‭ ‬الحلاق‭ ‬الياس‭ ‬أبو‭ ‬مرعي‭ ‬الذي‭ ‬دلني‭ ‬‮«‬الطفل‭ ‬المعجزة‮»‬‭ ‬كيف‭ ‬أصل‭ ‬إليه‭. ‬تبيّن‭ ‬أن‭ ‬أبو‭ ‬مرعي‭ ‬لبناني‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬المخيم‭ ‬منذ‭ ‬37‭ ‬عاماً‭. ‬هو‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬من‭ ‬الدامور‭ (‬جنوب‭ ‬بيروت‭) ‬هجّرته‭ ‬الحرب‭ ‬إلى‭ ‬الضبية،‭ ‬وقد‭ ‬جرّب‭ ‬العيش‭ ‬خارج‭ ‬المخيم‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬لكن‭ ‬بساطة‭ ‬العيش‭ ‬هنا‭ ‬والألفة‭ ‬مع‭ ‬جيرانه‭ ‬أرجعاه‭. ‬في‭ ‬المحل‭ ‬أيضاً‭ ‬كان‭ ‬أبو‭ ‬حنا‭ ‬الذي‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬الجنسية‭ ‬اللبنانية‭ ‬عام‭ ‬1994‭ ‬مع‭ ‬من‭ ‬حصلوا‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬القرى‭ ‬السبع‭ ‬الواقعة‭ ‬على‭ ‬الحدود‭ ‬مع‭ ‬فلسطين‭. ‬كان‭ ‬أبو‭ ‬حنا‭ ‬يتحدّث‭ ‬عن‭ ‬تشارك‭ ‬‮«‬التعتير‮»‬‭ ‬في‭ ‬المخيم‭ ‬بين‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬واللبنانيين‭ ‬والسوريين،‭ ‬لكنه‭ ‬عندما‭ ‬خرج‭ ‬أبو‭ ‬مرعي‭ ‬ليعدّ‭ ‬فنجان‭ ‬قهوة‭ ‬مرر‭ ‬جملة‭ ‬جعلتني‭ ‬أعود‭ ‬للتساؤل‭ ‬عن‭ ‬جنة‭ ‬التعايش‭ ‬التي‭ ‬رأيتها‭ ‬صادقة‭ ‬في‭ ‬كلام‭ ‬الحلاق‭ ‬لكن‭ ‬عقلي‭ ‬الشكوكي‭ ‬كان‭ ‬يرفض‭ ‬تصديق‭ ‬وجودها‭. ‬‮«‬اللي‭ ‬عندهن‭ ‬عنفوان‭ ‬فلّو‮»‬‭ ‬قال‭ ‬أبو‭ ‬حنا‭. ‬عاد‭ ‬أبو‭ ‬مرعي‭ ‬وتحدث‭ ‬عن‭ ‬أشياء‭ ‬كثيرة،‭ ‬من‭ ‬فقده‭ ‬لزوجته‭ ‬والحرقة‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬يشعر‭ ‬بها‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الفقد‭ ‬إلى‭ ‬زيارات‭ ‬طرابلس‭ (‬شمال‭ ‬لبنان‭) ‬التي‭ ‬يحبها‭. ‬قضيت‭ ‬وقتاً‭ ‬غير‭ ‬قصير‭ ‬أستمع‭ ‬إليه‭ ‬وإلى‭ ‬مداخلات‭ ‬ابن‭ ‬جيله‭ ‬القليلة‭ ‬وأشاركهما‭ ‬الضحك‭ ‬مؤجّلاً‭ ‬أسئلتي‭ ‬وشكوكي،‭ ‬ثم‭ ‬التقطت‭ ‬صورة‭ ‬لهما‭ ‬ومشيت‭.‬
في‭ ‬وقت‭ ‬لاحق‭ ‬من‭ ‬اليوم‭ ‬نفسه‭ ‬التقيت‭ ‬رأفت‭ ‬وزوجته‭ ‬مرح،‭ ‬السوريين‭ ‬اللذين‭ ‬استقرّا‭ ‬في‭ ‬المخيم‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬تقريباً‭. ‬مرح‭ ‬لم‭ ‬تعش‭ ‬في‭ ‬مكانٍ‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬أما‭ ‬رأفت‭ ‬فهو‭ ‬يعمل‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة‭. ‬هي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تتحدث‭ ‬كثيراً‭ ‬مقارنة‭ ‬بزوجها‭ ‬المنطلق‭ ‬الذي‭ ‬أعلمني‭ ‬أن‭ ‬في‭ ‬المخيّم‭ ‬حوالي‭ ‬50‭ ‬عائلة‭ ‬سورية،‭ ‬وأنه‭ ‬لم‭ ‬يتلقَّ‭ ‬معاملة‭ ‬سيئة‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬لكنه‭ ‬أعاد‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬كونه‭ ‬يعمل‭ ‬بجد‭ ‬مما‭ ‬يمنحه‭ ‬قوة‭ ‬اقتصادية‭ ‬تجعل‭ ‬جيرانه‭ ‬يحترمونه‭ ‬ويعاملونه‭ ‬بنديّة‭. ‬لم‭ ‬يطل‭ ‬اللقاء‭ ‬فودّعت‭ ‬الزوجين‭ ‬الشابين،‭ ‬وودّعت‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬يتفق‭ ‬جميع‭ ‬من‭ ‬حدّثهم‭ ‬من‭ ‬ساكنيه‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬ضيعة‭ ‬وليس‭ ‬مخيم‭ ‬لاجئين‭.‬
دخلت‭ ‬غريباً‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬قصص،‭ ‬وخرجت‭ ‬راغباً‭ ‬في‭ ‬العودة،‭ ‬ومحمّلاً‭ ‬بأفكارٍ‭ ‬متضاربة‭ ‬حول‭ ‬الطريقة‭ ‬الأمثل‭ ‬التي‭ ‬يجب‭ ‬على‭ ‬البشر‭ ‬اتباعها‭ ‬لإدارة‭ ‬حياتهم‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ينهوا‭ ‬حروبهم‭. ‬روبير‭ ‬قال‭ ‬إنه‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬شيئاً‭ ‬عمّا‭ ‬جرى‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية،‭ ‬وأنا‭ ‬سأضع‭ ‬سماعتين‭ ‬في‭ ‬أذنيّ‭ ‬وأستمع‭ ‬إليه‭ ‬يغنّي‭ ‬أغنيته‭ ‬التي‭ ‬سرقتها‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭.‬

A+
A-
share
كانون الأول 2016
تحميل المزيد