لحظة الوصول إلى بيروت تفوّق فيها البحر على القلق من المجهول، كانت المرة الأولى التي أرى فيها هذا الكم من الامتداد الأزرق بين السماء والماء. البحر أدهشني ربما لأشهر، قبل أن أتملّك الحزن والتعب المساير لحياة البيروتيين. المدينة هذه تطرح على سكانها كماً كبيراً من الأسئلة تجعلهم تائهين في الإجابة من دون الوصول إليها.
«لا تبحثي عما يكمن خلف الأشياء هنا، حقيقة المدينة في ظاهرها»، قال لي أحدهم مرة لحظة وصولي إلى شارع السادات في الحمرا. هناك أصبحت فتاة الخزانة حيث عشت في غرفة صغيرة جداً، تُخصص عادة لخادمة المنزل. لكنني لا أبالغ إذا قلت إني لطالما حلمت بهذه الغرفة. صغيرة بما يكفي لأن أتحكم في فضائها فأحوّل جميع الجدران إلى أبعاد أخرى بالصور والسكيتشات، وأنام بين رائحة الألوان. أحببت تلك الخزانة الخشبية الصغيرة كالتي توضع فيها الأواني الزجاجية في المنازل، تلك كانت خزانة ثيابي وفوقها عدسة مكبرة، كأس فارغة فيها ريشة، قلم كحل، مجلة عن الأفلاك والكواكب، علبة سجائر، وأشياء أخرى كثيرة.
عندما خرجت من رتابة الأسرة والمجتمع إلى العالم وحيدة، فقدت سلاسة الزمن الدائري الذي يعود إلى النقطة ذاتها كل يوم. الحياة هنا تباغت الوقت وتجرّده معناها. في كثير من الأحيان، أعجز عن استحضار لحظات في سياقها الزمني، فلا أذكر إذا كنت قد نقلت سكني إلى فرن الشباك في السنة الثانية أو الثالثة من الجامعة، لكنني ما زلت أحافظ على معنى الذاكرة المجرد من السياق.
من المتحف إلى الحمرا مروراً بكورنيش المزرعة وفردان، اختبرت باص رقم 24 كعلبة متنقلة محشوة بالبشر. لا أعلم حقيقة إذا كان هذا التجريد في صالح الفن أو ضده، لكنني أعرف أن الباص يقلل من أهمية التجربة الفردية في المدينة جاعلاً إياها جزءاً من مشهد عام تتشابه فيه التجارب المتعبة. المكان ليس فردياً كما يشاع، هو يسمح للناس بأن يكونوا أفراداً إذا قاوموا الجماعة بشكل كافٍ.
من فتاة صغيرة بشعر طويل، خجول لا تتكلم إلا القليل، تحولت إلى شخص آخر. رحت أطارد العادات التي فرضها مجتمعي القديم واحدة، واحدة. اختبرت الاستقلال عن العائلة في سن صغيرة. عبوري الحدود بين سوريا ولبنان كان كافياً لكسر مركَبات السلطة الكثيرة في سوريا. بالتأكيد، قصصت شعري بشكل صبياني، وراقت لي فكرة العمل في مسرح «مترو المدينة» حيث تكَشف لي جزء جديد من بيروت، ليلاً وتحت الأرض.
كنت في داخلي أشعر أن بيروت محطة أمرّ منها فحسب، لكني بقيت أشكك في هذه الفكرة خوفاً أن يكون مصدرها عجزي عن الإنجاز هنا. لا أعلم إذا كان الأمر متعلقاً برغبتي في ترك بيروت بأي طريقة، أو أن المكان لا أهمية له عندي بقدر الرغبة القوية في إيجاد قارب صغير داخلي أسافر به أينما شئت وبكل الاتجاهات والأماكن.
كنت أجرّب الوصول إلى نقطة واحدة في رأسي، تختزل التجربة وتكثفها في فكرة. انتهى بي الأمر إلى أن أصنع كائنات إسمنتية صغيرة متشابهة في قلقها وهمومها وهلوساتها، تحكمها وحوش عملاقة تلغي رغبتها في الحياة، وتصنع منها نسخاً تشابه وتطيع كتلة الإسمنت الكبيرة: سمِّها استبداداً، نظاماً رأسمالياً، نيوليبرالية، جدّك مختار القرية... أو ما شئت.
عمل فني تجهيزي للنحاتة مروى أبو خليل