باص‭ ‬24‭ ‬محشو‭ ‬بكائنات‭ ‬إسمنتية

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 01 كانون الأول 16 3 دقائق للقراءة
باص‭ ‬24‭ ‬محشو‭ ‬بكائنات‭ ‬إسمنتية
عمل فني تجهيزي (installation) للنحاتة مروى أبو خليل
إنه‭ ‬البيت‭ ‬الثالث‭ ‬عشر‭ ‬خلال‭ ‬ثلاث‭ ‬سنين‭ ‬ونصف‭ ‬سنة‭ ‬في‭ ‬بيروت‭. ‬سيرورة‭ ‬من‭ ‬التنازل‭ ‬أختصر‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬فيها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬مقتنياتي‭ ‬محاولة‭ ‬ترتيب‭ ‬الأشياء‭ ‬والأولويات‭. ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬أغادر‭ ‬فيها‭ ‬بيتاً،‭ ‬أعود‭ ‬للحظة‭ ‬التشرّد‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬تستلزم‭ ‬جمع‭ ‬كل‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬حقيبة‭ ‬واحدة‭.‬
لحظة‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬بيروت‭ ‬تفوّق‭ ‬فيها‭ ‬البحر‭ ‬على‭ ‬القلق‭ ‬من‭ ‬المجهول،‭ ‬كانت‭ ‬المرة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬أرى‭ ‬فيها‭ ‬هذا‭ ‬الكم‭ ‬من‭ ‬الامتداد‭ ‬الأزرق‭ ‬بين‭ ‬السماء‭ ‬والماء‭. ‬البحر‭ ‬أدهشني‭ ‬ربما‭ ‬لأشهر،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أتملّك‭ ‬الحزن‭ ‬والتعب‭ ‬المساير‭ ‬لحياة‭ ‬البيروتيين‭. ‬المدينة‭ ‬هذه‭ ‬تطرح‭ ‬على‭ ‬سكانها‭ ‬كماً‭ ‬كبيراً‭ ‬من‭ ‬الأسئلة‭ ‬تجعلهم‭ ‬تائهين‭ ‬في‭ ‬الإجابة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الوصول‭ ‬إليها‭. ‬
‮«‬لا‭ ‬تبحثي‭ ‬عما‭ ‬يكمن‭ ‬خلف‭ ‬الأشياء‭ ‬هنا،‭ ‬حقيقة‭ ‬المدينة‭ ‬في‭ ‬ظاهرها‮»‬،‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬أحدهم‭ ‬مرة‭ ‬لحظة‭ ‬وصولي‭ ‬إلى‭ ‬شارع‭ ‬السادات‭ ‬في‭ ‬الحمرا‭. ‬هناك‭ ‬أصبحت‭ ‬فتاة‭ ‬الخزانة‭ ‬حيث‭ ‬عشت‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬صغيرة‭ ‬جداً،‭ ‬تُخصص‭ ‬عادة‭ ‬لخادمة‭ ‬المنزل‭. ‬لكنني‭ ‬لا‭ ‬أبالغ‭ ‬إذا‭ ‬قلت‭ ‬إني‭ ‬لطالما‭ ‬حلمت‭ ‬بهذه‭ ‬الغرفة‭. ‬صغيرة‭ ‬بما‭ ‬يكفي‭ ‬لأن‭ ‬أتحكم‭ ‬في‭ ‬فضائها‭ ‬فأحوّل‭ ‬جميع‭ ‬الجدران‭ ‬إلى‭ ‬أبعاد‭ ‬أخرى‭ ‬بالصور‭ ‬والسكيتشات،‭ ‬وأنام‭ ‬بين‭ ‬رائحة‭ ‬الألوان‭. ‬أحببت‭ ‬تلك‭ ‬الخزانة‭ ‬الخشبية‭ ‬الصغيرة‭ ‬كالتي‭ ‬توضع‭ ‬فيها‭ ‬الأواني‭ ‬الزجاجية في‭ ‬المنازل،‭ ‬تلك‭ ‬كانت‭ ‬خزانة‭ ‬ثيابي‭ ‬وفوقها‭ ‬عدسة‭ ‬مكبرة،‭ ‬كأس‭ ‬فارغة‭ ‬فيها‭ ‬ريشة،‭ ‬قلم‭ ‬كحل،‭ ‬مجلة‭ ‬عن‭ ‬الأفلاك‭ ‬والكواكب،‭ ‬علبة‭ ‬سجائر،‭ ‬وأشياء‭ ‬أخرى‭ ‬كثيرة‭.‬
عندما‭ ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬رتابة‭ ‬الأسرة‭ ‬والمجتمع‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬وحيدة،‭ ‬فقدت‭ ‬سلاسة‭ ‬الزمن‭ ‬الدائري‭ ‬الذي‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬النقطة‭ ‬ذاتها‭ ‬كل‭ ‬يوم‭. ‬الحياة‭ ‬هنا‭ ‬تباغت‭ ‬الوقت‭ ‬وتجرّده‭ ‬معناها‭. ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان،‭ ‬أعجز‭ ‬عن‭ ‬استحضار‭ ‬لحظات‭ ‬في‭ ‬سياقها‭ ‬الزمني،‭ ‬فلا‭ ‬أذكر‭ ‬إذا‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬نقلت‭ ‬سكني‭ ‬إلى‭ ‬فرن‭ ‬الشباك‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬الثانية‭ ‬أو‭ ‬الثالثة‭ ‬من‭ ‬الجامعة،‭ ‬لكنني‭ ‬ما‭ ‬زلت‭ ‬أحافظ‭ ‬على‭ ‬معنى‭ ‬الذاكرة‭ ‬المجرد‭ ‬من‭ ‬السياق‭.‬
من‭ ‬المتحف‭ ‬إلى‭ ‬الحمرا‭ ‬مروراً‭ ‬بكورنيش‭ ‬المزرعة‭ ‬وفردان،‭ ‬اختبرت‭ ‬باص‭ ‬رقم‭ ‬24‭ ‬كعلبة‭ ‬متنقلة‭ ‬محشوة‭ ‬بالبشر‭. ‬لا‭ ‬أعلم‭ ‬حقيقة‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬التجريد‭ ‬في‭ ‬صالح‭ ‬الفن‭ ‬أو‭ ‬ضده،‭ ‬لكنني‭ ‬أعرف‭ ‬أن‭ ‬الباص‭ ‬يقلل‭ ‬من‭ ‬أهمية‭ ‬التجربة‭ ‬الفردية‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬جاعلاً‭ ‬إياها‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬مشهد‭ ‬عام‭ ‬تتشابه‭ ‬فيه‭ ‬التجارب‭ ‬المتعبة‭. ‬المكان‭ ‬ليس‭ ‬فردياً‭ ‬كما‭ ‬يشاع،‭ ‬هو‭ ‬يسمح‭ ‬للناس‭ ‬بأن‭ ‬يكونوا‭ ‬أفراداً‭ ‬إذا‭ ‬قاوموا‭ ‬الجماعة‭ ‬بشكل‭ ‬كافٍ‭.‬
من‭ ‬فتاة‭ ‬صغيرة‭ ‬بشعر‭ ‬طويل،‭ ‬خجول‭ ‬لا‭ ‬تتكلم‭ ‬إلا‭ ‬القليل،‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬شخص‭ ‬آخر‭. ‬رحت‭ ‬أطارد‭ ‬العادات‭ ‬التي‭ ‬فرضها‭ ‬مجتمعي‭ ‬القديم‭ ‬واحدة،‭ ‬واحدة‭. ‬اختبرت‭ ‬الاستقلال‭ ‬عن‭ ‬العائلة‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬صغيرة‭. ‬عبوري‭ ‬الحدود‭ ‬بين‭ ‬سوريا‭ ‬ولبنان‭ ‬كان‭ ‬كافياً‭ ‬لكسر‭ ‬مركَبات‭ ‬السلطة‭ ‬الكثيرة‭ ‬في‭ ‬سوريا‭. ‬بالتأكيد،‭ ‬قصصت‭ ‬شعري‭ ‬بشكل‭ ‬صبياني،‭ ‬وراقت‭ ‬لي‭ ‬فكرة‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬مسرح‭ ‬‮«‬مترو‭ ‬المدينة‮»‬‭ ‬حيث‭ ‬تكَشف‭ ‬لي‭ ‬جزء‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬بيروت،‭ ‬ليلاً‭ ‬وتحت‭ ‬الأرض‭.‬
كنت‭ ‬في‭ ‬داخلي‭ ‬أشعر‭ ‬أن‭ ‬بيروت‭ ‬محطة‭ ‬أمرّ‭ ‬منها‭ ‬فحسب،‭ ‬لكني‭ ‬بقيت‭ ‬أشكك‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة‭ ‬خوفاً‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مصدرها‭ ‬عجزي‭ ‬عن‭ ‬الإنجاز‭ ‬هنا‭. ‬لا‭ ‬أعلم‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬الأمر‭ ‬متعلقاً‭ ‬برغبتي‭ ‬في‭ ‬ترك‭ ‬بيروت‭ ‬بأي‭ ‬طريقة،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬المكان‭ ‬لا‭ ‬أهمية‭ ‬له‭ ‬عندي‭ ‬بقدر‭ ‬الرغبة‭ ‬القوية‭ ‬في‭ ‬إيجاد‭ ‬قارب‭ ‬صغير‭ ‬داخلي‭ ‬أسافر‭ ‬به‭ ‬أينما‭ ‬شئت‭ ‬وبكل‭ ‬الاتجاهات‭ ‬والأماكن‭.‬
كنت‭ ‬أجرّب‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬نقطة‭ ‬واحدة‭ ‬في‭ ‬رأسي،‭ ‬تختزل‭ ‬التجربة‭ ‬وتكثفها‭ ‬في‭ ‬فكرة‭. ‬انتهى‭ ‬بي‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أصنع‭ ‬كائنات‭ ‬إسمنتية‭ ‬صغيرة‭ ‬متشابهة‭ ‬في‭ ‬قلقها‭ ‬وهمومها‭ ‬وهلوساتها،‭ ‬تحكمها‭ ‬وحوش‭ ‬عملاقة‭ ‬تلغي‭ ‬رغبتها‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬وتصنع‭ ‬منها‭ ‬نسخاً‭ ‬تشابه‭ ‬وتطيع‭ ‬كتلة‭ ‬الإسمنت‭ ‬الكبيرة‭: ‬سمِّها‭ ‬استبداداً،‭ ‬نظاماً‭ ‬رأسمالياً،‭ ‬نيوليبرالية،‭ ‬جدّك‭ ‬مختار‭ ‬القرية‭... ‬أو‭ ‬ما‭ ‬شئت‭.‬
 
عمل فني تجهيزي للنحاتة مروى أبو خليل
A+
A-
share
كانون الأول 2016
أنظر أيضا
01 كانون الأول 2017
01 كانون الأول 2017
تحميل المزيد