اعتاد وسيم (اسم مستعار) بيع أكياس المحارم عند تقاطع طرق في شارع رئيسي في بيروت. مهنته «المتواضعة» هذه لم تمنع عنه تهديد صاحب المحل المجاور. «إذا بتضلّك هون ح ابعتك ع الحبس!». لكن الفتى كان وجد في هذا المكان فرصة ليبيع أكثر، فلم يبارحه.
ذات يوم، وصل أحد رجال الأمن. فهم وسيم أن الرجل سينفَذ تهديده. قرّر الهرب، لكن «الشرطي» كان أسرع منه. عاجله بصفعة رمته أرضاً، ثم اقتاده بقبضة تمسك رقبته إلى شارع فرعي. «ح آخدك ع المخفر يا حرامي». شتمه وهدّده، ثم صفعه مرة أخرى، قبل أن يتركه وهو يصرخ: «إذا بشوفك هون بعد ح حطك بالحبس»!
في تطوّر افتراضي على قصة وسيم، كان يمكن أن يقتاده رجل الأمن إلى المخفر، للتحقيق معه بتهمة ما، ثم يحيله بعدها إلى المحكمة، فيصدر في حقه حكم بالسجن في جناح الأحداث في «رومية»، أو في مركز الإصلاح في الفنار. وقد يتّخذ القاضي بدلاً من ذلك، أحد التدابير غير المانعة للحرية في حقه. في حالة أخرى، كان القاضي سينظر في احتمال تعرض الحدث للخطر، ويقرر إن كان يحتاج إلى إجراءات حماية.
يمرّ الحدث الموقوف في لبنان إذاً في مسارات مختلفة، يحددها القانون رقم 422، الذي حرص المشرّع على تسميته بقانون حماية الأحداث، سواء كانوا مخالفين للقانون، أم معرّضين للخطر. غير أن هذه المسارات تتعرض لانتهاكات وتجاوزات، بعضها يخالف القانون وبعضها يحتاج الحدّ منها إلى تعديلات وإجراءات جديدة.
إلى المخفر..
«الحدث الذي يخالف القانون يستفيد من معاملة منصفة وإنسانية.. ولا يتم حجز الأحداث مع الراشدين».
تبدأ إجراءات ملاحقة حدث مخالف للقانون باقتياده إلى المخفر مكبّل اليدين. وهذا مخالف لاتفاقية حقوق الطفل، بحسب الوزيرة السابقة منى عفيش، وهي رئيسة مؤسّسة «الأب عفيف عسيران» التي تشارك في تأهيل الأحداث في «سجن رومية». لكن التجاوزات لا تقتصر على ذلك، فالحدث عند توقيفه يتعرض للضرب وللإساءة أحياناً، في الشارع أو في المخفر، كما يشير رئيس لجنة شؤون الأحداث وحقوق الطفل في نقابة المحامين عمر اسكندراني.
وفيما يؤكد اسكندراني أن القانون 422 يطبّق على جميع الأحداث في لبنان، بغضّ النظر عن الجنسية، تلفت إحدى الناشطات في مجال رصد الانتهاكات في حق اللاجئين السوريين، إلى تجاوزات تقع خارج سياق القانون. فالحدث السوري، يعامل بوصفه الحلقة الأضعف، ابتداءً من طريقة تعامل بعض رجال الأمن معه في الشارع، وصولاً إلى تعامل الموقوفين الآخرين معه في السجن.
في المخفر، منع القانون إجراء تحقيق مع الحدث الموقوف، من دون وجود مندوب اجتماعي، حماية له من احتمالات التعنيف أو التخويف. وأعطى القانون مهلة أقصاها ست ساعات لحضوره. لكن، بانتظار المندوب، يُودع الحدث في غرفة الاحتجاز، برفقة الراشدين الموقوفين بشتّى التهم، رغم أن القانون يحظّر ذلك، بحسب اسكندراني.
ومخالفة القانون لا تتوقف هنا. أحياناً، تقول عفيش، لا يحضر المندوبون في المهلة المحددة، بسبب النقص في أعدادهم. حينها قد يتجاوز المسؤول عن التحقيق الشروط المفروضة، ويقوم بإجراء التحقيق الأوليّ مع الحدث الموقوف بمفرده. غير أن النقص في عدد المندوبين لا يبرر ذلك، فالمادة 47 من أصول المحاكمات الجزائية تنص على أن لكل موقوف الحق بالاتصال بأحد عائلته وحضور محامٍ يختاره.
في تسلسل الإجراءات المفترضة، ينتهي التحقيق الأولي بالاتصال بالمدعي العام. وعدم وجود مدعين متفرغين بقضايا الأحداث يعني المزيد من التأخير في الإجراءات. كما أن القانون لم يفرض حضور المندوب في هذه المرحلة، وهو ما تطالب به الجمعيات المعنية.
إلى قصر العدل..
«تخضع إجراءات ملاحقته (الحدث) والتحقيق معه ومحاكمته إلى بعض الأصول الخاصة، فتحاول ما أمكن تجنيبه الإجراءات القضائية».
ينقل الموقوف الحدث من المخفر، في حال قرّر المدعي العام ذلك، إلى قصر العدل، حيث يوضع قيد التوقيف الاحتياطي. وقد حدّد القانون مدة التوقيف بـ 48 ساعة، تضاف إليها مدة مماثلة، إذا استدعى ذلك قرار التوسّع في التحقيق. والحدث في هذه المرحلة أيضاً يسجن برفقة الراشدين، في غرفة تكون غالباً مكتظّة بالموقوفين في شتى التهم. إلا أن التجاوز يأخذ مساراً أخطر، عندما تزيد مدة التوقيف عن المهل القانونية المنصوص عنها، كما تلفت عفيش.
الخطوة التالية تقود إلى قاضي التحقيق. ووفقاً للقانون، يحق لأي موقوف تعيين محامٍ. فإن لم يستطع الأهل تأمينه، يمكن للقاضي تعيين أي محام «متوفر»، من دون مراعاة شرط التخصص. وللحد من ذلك، تسعى لجنتا شؤون الأحداث والمعونة القضائية في نقابة المحامين إلى تأمين محامين متخصصين، تودع لائحة بأسمائهم لدى القضاة.
من المخفر إذاً، ورجال الأمن فيه، إلى المدعي العام ثم قاضي التحقيق مروراً بالمحامين المكلًفين على عجل، يخضع الحدث إلى إجراءات ينفذها أشخاص غير متخصصين أو غير متفرغين. تختتم مرحلة التحقيق بإحالة القضية إلى قاضي الأحداث. وفي حالات محددة، ينظر القضاء العادي في القضية، لا سيما عند اشتراك حدث مع غير حدث في الجرم، حيث تأخذ القضايا المماثلة الكثير من الوقت للبت فيها.
وتثير الحالة الأخيرة إشكاليات عدة، أهمها مبدأ السرّية. تقول عفيش: «الراشد قد يطلب العلنية في المحاكمة، والمحكمة مضطرة للموافقة على طلبه، وبالتالي قد لا تلتزم السرية عند محاكمة الحدث، وهذه مخالفة صارخة».
إلى السجن..
«الحدث بحاجة إلى مساعدة خاصة تؤهله ليلعب دوره في المجتمع.. وفي كل الأحوال يجب مراعاة صالح الحدث لحمايته من الانحراف».
في مبنى الأحداث في سجن رومية، ينقسم الموقوفون بين من صدرت بحقهم أحكام بالسجن، وبين من ينتظرون البت في قضاياهم. والتأخير في البت في قضايا الموقوفين عموماً، ينطبق على قضايا الأحداث أيضاً، بحسب اسكندراني. لكن آثار هذا التأخير تصير مضاعفة بالنسبة إلى الحدث، آخذاً بعين الاعتبار روحية القانون الهادف إلى الحماية.
ومع ارتفاع عدد الموقوفين، خصوصاً في العام 2016، يوضع أحياناً 15 حدثاً في غرفة واحدة، في ظروف إنسانية سيئة. ورغم أن الإحصاءات لم تنجز كاملة بعد، تنسب عفيش هذه الزيادة إلى ارتفاع عدد الموقفين السوريين.
والحديث عن ارتفاع عدد الموقوفين السوريين في السنوات الأخيرة، يغفل تنوّع التهم والملفات المتعلقة بهؤلاء. ففي جدول موزّع بحسب التهم، يبلغ عدد الملفات الواردة 2882 ملفاً في العام 2014، بحسب آخر الإحصاءات المتوفرة على موقع وزارة العدل. ومن هذه الملفات تهم تتعلق مثلاً بالأوراق الثبوتية (550 ملفاً، وهو العدد الأكبر)، تسوّل (51)، إقامة غير مشروعة (152)، إقلاق راحة (83)، مسح أحذية (46)، بيع في الشارع (128) وخمس حالات لجمع الخردة وثمان حالات بتهمة العبث في القمامة!
وبالعودة إلى سجن الأحداث، لا تفصل الإجراءات المتبعة بين المتهمين بتعاطي المخدرات، وبين المتهمين بالإتجار مثلاً، أو بين الموقوفين بتهم السرقة أو بتهم القتل أو الشروع به، وهو ما يتعارض مع مبدأ مراعاة صالح كل حدث، بما يحميه من الانحراف.
ويخضع الموقوفون، بموجب قانون حماية الأحداث، إلى عملية تأهيلية، تحت إشراف فرق متخصصة. لكن هذه الرعاية التي أقرها القانون، محدودة ضمن مهلة زمنية تنتهي ظهر كل يوم!
تقول عفيش «إن فرق الجمعيات المعنية بالتأهيل خاضعة لأحكام سجن رومية، وبالتالي يفترض بها إخلاء المبنى في الساعة الثانية تماماً. وبغياب هؤلاء تقع مسؤولية متابعة أوضاع المسجونين على عاتق قوى الأمن». وفيما تنفي عفيش احتكاك الأحداث بالراشدين في السجن، يؤكد اسكندراني «أن مبنى الأحداث يستعمل كمبنى سجن عادي، بسبب الاكتظاظ في مباني رومية، «وهذه مخالفة واضحة وجليّة»».
وبين النفي والتأكيد تفاصيل أخرى كفيلة بإزالة الالتباس.. أو الأصح تأكيده!
في الفترة الصباحية، أي في الوقت الذي تتواجد فيه فرق التأهيل، يحضر أيضاً فريق من «السجناء المؤهلين»، المكلفين من قبل إدارة السجن بالإشراف على الأحداث. وبعد الثانية ظهراً، يبقى هؤلاء السجناء بمفردهم مع الأحداث، في غرفة تقع في المبنى نفسه، من دون رقابة الجمعيات العاملة في السجن، مع ما يحمله ذلك من احتمالات وقوع تجاوزات كثيرة، أولها الاحتكاك بين الحدث والراشد خلافاً للقانون، وآخرها.. التعرّض للاغتصاب!
وبينما تتحفظ عفيش عن تأكيد وقوع حالات اغتصاب بصراحة، تطرح أسئلة تصب في السياق نفسه: من يضمن أن غرفة الراشدين تظلّ مغلقة مساء؟ ومن يراقب تصرفات هؤلاء السجناء؟ وهل يجوز أساساً أن يراقب سجين راشد سجيناً آخر من الأحداث؟
وفي مقابل تحفّظ عفيش، يؤكد اسكندراني وقوع حالات اغتصاب واستخدام للعنف من قبل سجناء راشدين، ناسباً، أيضاً، تأكيداً على ذلك من قبل أحد القضاة المتخصصين بقضايا الأحداث.