إعاقة شادي سعيد التي قد تشكّل عقبة إضافية في طريقه لا تردعه أو تثنيه عن فكرة الهجرة. بالنسبة إليه «أي شيء أفضل من جحيم العيش في لبنان».
تخرَّج شادي عام 2012 من الجامعة اللبنانية في صيدا، وراح يبحث مباشرة عن عمل. لا إعاقته ولا كونه لاجئاً فلسطينياً كانتا لتقفا عقبة في درب طموحاته، لكن سرعان ما أصيب بخيبات أمل متتالية نتيجة عدم إيجاد وظيفة. مع ذلك، لم يستسلم، بل حاول أن يبدأ مشروعاً متواضعاً خارج حدود مخيم عين الحلوة حيث يقيم، إلَّا أن ارتفاع بدل إيجارات المحالِّ أجبره على التخلي عن الفكرة.
لم يتوان عن الالتحاق بعدد من الدورات لكي لا يبقى أسير ظروفه الصعبة. لم يترك أحداً إلا وطلب منه مساعدة في إيجاد عمل شريف يكسبه لقمة عيشه ولكن بلا جدوى.
شادي ليس حالة فريدة. الكثير من الشباب الفلسطيني في لبنان يختزل أحلامه حالياً بالهجرة إلى أي بلد يضمن له، أو لها، العيش بكرامة.
وفقاً لدراسة ميدانية أجرتها «المؤسسة الفلسطينية لحقوق الانسان» (شاهد)(1)، فإن 70.3 % من الفئة العمرية بين 20-18 سوف يهاجرون إن واتتهم الفرصة. مشاعر الغضب والمرارة يستشعرها المرء لدى حديثه مع الشباب الفلسطيني في لبنان. فبنظرهم ، هم يدفعون فاتورة قوانين لبنانية جائرة منذ اللجوء الأول في العام 1948، تحرمهم من غالبية حقوقهم المدنية.
ورث هؤلاء الشباب عن أهلهم إرثاً ثقيلاً يمنعهم من العمل في أكثر من 72 وظيفة ومهنة، ومن التملّك في لبنان أو البناء في المخيمات، ويقيِّد حركتهم، إن كان عبر الحواجز التي تنتشر على مداخل مخيماتهم، أو من خلال التدقيق الدائم بأوراقهم الثبوتية، ويهمِّشهم اجتماعياً واقتصادياً.
كما أن العنصرية التي تمارس ضدهم بشكل عام من قبل المجتمع المضيف، وإشعارهم المستمر بالدونية، يضاعف عزلتهم وتقوقعهم داخل مجتمعاتهم.
تؤثِّر القوانين والمراسيم والقرارات اللبنانية غير العادلة بشكل مباشر على الشباب، خصوصاً أن نصف السكان الفلسطينيين في لبنان هم دون سن الخامسة والعشرين. غالبيتهم عبّروا، من خلال عيّنة خاطبناها لغرض هذا المقال، أن هاجسهم الأول هو انعدام فرص العمل بغضّ النظر عن مستوياتهم التعليمية، بالإضافة إلى الاستغلال الوظيفي الذي غالباً ما يتعرضون له إن وجدوا وظيفة معينة كمنحهم رواتب متدنية، وحرمانهم من الضمان الصحي والاجتماعي أسوة باللبنانيين.
البطالة المتفشية بين الشباب، ونسبة الفقر التي تصل بحسب دراسة للجامعة الأميركية في بيروت و«الأونروا»(2) إلى إلى 65 % يترتب عليهما انتشار الآفات الاجتماعية في مخيمات تتحول مع الوقت من حاضنة للوجود والهوية الفلسطينية إلى بيئة خصبة للاشكالات الأمنية والآفات الاجتماعية المتنامية كالتطرف الديني، وانتشار السلاح والمخدرات، والعنف الأسري والاستغلال الجنسي للأطفال وغيرها.
وبرغم تضارب الأرقام في ما يخص التسرّب المدرسي لدى الطلاب الفلسطينيين في مدارس «الأونروا»، إلا أنها باتت أيضاً من الظواهر المنتشرة والمقلقة والتي تعكس الإحباط وانعدام الأفق الذي يشعر به التلميذ عندما يرى الأكبر سناً منه عاطلين عن العمل، أو يعملون بوظائف بسيطة لا تمت بصِلة لاختصاصاتهم.
يجمع الشباب على أن الدولة اللبنانية تتحمل جزءاً كبيراً من مسؤولية وضعهم المتردي والذي ازداد صعوبة بعد النزوح الفلسطيني من سوريا إلى لبنان، وما ترتب عليه من تبعات اقتصادية واجتماعية، ولكنهم يشدِّدون على أن الجانب الفلسطيني الرسمي بكل أطيافه يتملّص هو الآخر من مسؤوليته تجاه الشباب ولا يمنحه دوراً فاعلاً في مجتمعه المحلي أو يشركه في عملية صنع القرار، بل يعمل أحياناً على استغلال الطاقات الشبابية لمصلحة تغذية انقساماته الفصائلية.
ولا يعفي ذلك الشباب من توجيه أصابع الاتهام إلى «الأونروا» خصوصاً لجهة «تقاعسها في أداء الدور الذي وجدت من أجله»، وتحديداً في ظل تقليصها المستمر والمتصاعد لخدماتها.
«أن أكون لاجئة لا يعني أن أكون جثة هامدة»، تقول ربى الحمد التي ترى في اللجوء مصدراً للقوة والتحدي من أجل الاستمرار برغم الصعوبات الجمّة التي تواجهها.
وبرغم سوداوية الوضع، إلّا أن الكثير من الشباب الفلسطيني لا ينفك يحاول إيجاد أفق ولو صغير للحياة الكريمة. تجلى ذلك مؤخراً في عدد من المبادرات الشبابية في المخيمات والتجمعات للارتقاء بالشباب وتنمية قدراتهم ومواهبهم وتمكينهم في مجالات عدة وإيجاد فرص عمل لهم.
ويعوِّل هؤلاء على هذا النوع من المبادرات التي وبرغم تواضعها، تشكل متنفساً لهم، ويطالبون مؤسسات المجتمع المدني بدعم هذه المبادرات والاستثمار في طاقات الشباب من خلال المشاريع التي ينفّذونها لتمكينهم وإيجاد فرص عمل لهم.
أحلام الشباب الفلسطيني في لبنان متواضعة مقارنة بأقرانهم من جنسيات أخرى، فهي تتراوح بين التعليم والعمل وتكوين أسرة. أحلام قد تبدو عادية ولكنها مستحيلة في لبنان حتى بالنسبة إلى أكثرهم تفاؤلاً. «ولكي لا تصبح أهداف الشباب مصوّبة إلى البحر» كما تقول هبة ياسين، لا بد من مراجعة شاملة من قبل جميع الأطراف المعنية لهذا الواقع الأليم لمعالجته قبل أن «تنفجر هذه القنبلة الموقوتة لأنه حين يجوع البطن يتوقف العقل»، كما يؤكد معاذ خليل.
بإمكان المعنيين تجاهل هذا الواقع الأليم في المدى المنظور، ولكنهم سيواجهون حتماً عواقبه الحتمية والوخيمة على المدى الأطول!
(1) واقع الشباب الفلسطيني في لبنان دراسة ميدانية، المؤسسة الفلسطينية لحقوق الانسان (شاهد)، 2015-2014.
(2) المسح الاجتماعي الاقتصادي للفلسطينيين في لبنان، الجامعة الأميركية في بيروت، والأونروا، صفحة 58، 2015
قد تبدو قصص نجاح الشباب الفلسطيني في لبنان مختلفة قياساً بأقرانهم من جنسيات أخرى نظراً الى ظروفهم الصعبة، لكنها تبقى قصص تحد واصرار من أجل غد أفضل.. إليكم قصتا نجاح:
ربا رحمة
شابة فلسطينية نازحة من مخيم اليرموك في سوريا، تركت بصمتها أمام أقرانها في مخيم عين الحلوة.
ربا المبتسمة والمتفائلة كرّست وقتها وجهدها للشباب من خلال سعيها لانتشالهم من الفراغ والضياع. أنشأت فرقة فنية لتعليم الدبكة والمسرح والغناء احتضنت من خلالها مواهب شبابية متنوعة. تنقّل هؤلاء للتدريب بين بيت ربا في المخيم إلى كورنيش صيدا البحري، قبل أن يستقر بهم الحال في «جمعية التنمية للانسان والبيئة» حيت تعمل هي متطوعة.
تسعى ربا الى الحصول على تمويل لفرقتها بهدف إنقاذ أكبر عدد من الشباب. طاقة ربا وتأثيرها الإيجابي فرضا تغيير حياة شباب وشابات إلى الافضل، منهم من استبدل السكين التي لا تفارقه بلغة الحوار، ومنهم من أقلع عن التدخين، حتى أن بعض عائلات الشباب يلجأون الى ربا لمساعدتهم بحل مشاكل أبنائهم.
برغم هجرة عائلتها ، أخذت ربا على عاتقها وعلى نفقتها، ليس شقيقها الأصغر منها وحسب، بل أيضاً تعليم أحد الشباب في مهنية صيدا لأنها كما تقول تريد أن يعتمد الشباب على أنفسهم. وها هي اليوم تحاول مع مجموعة شبابية خلق مساحة حرة لشباب عين الحلوة بعيداً عن الانقسامات القائمة تكون رديفاً للملتقى التابع لجمعية التنمية الذي يتضمن فعاليات ثقافية وفنية. حلمها الكبير أن تتمكن من مساعدة أكبر عدد ممكن من الشباب قبل أن تحقق حلمها الأكبر المتمثل بالتئام شملها مع أهلها تحت سقف واحد.
ربا تقف أمام جدارية رسمتها في الملتقى في جمعية التنمية للانسان والبيئة/ صيدا
أحمد حلبي
يستقبلنا أحمد حلبي من مخيم شاتيلا في صالون الحلاقة الخاص به خلف المدينة الرياضية بابتسامة عريضة تظهر مدى فخره بانجازه. هذا الشاب انتشل نفسه من الحضيض ليصل إلى ما وصل إليه. مشوار أحمد القاسي بدأ منذ تركته أمه برفقة شقيقته ووالده وهو لم يبلغ الثالثة من العمر. ومع افتقاده لاهتمام الأم والأب، ترك أحمد المدرسة وهو في الصف الثالث الابتدائي، ودخل معترك الحياة متنقلاً بين عدد من صالونات الحلاقة في مناطق مختلفة من بيروت، لتبدأ رحلته مع التشرد والسجن والكحول والمخدرات. لم يخرج أحمد من دهاليز هذا العالم الأسود إلا بعد صدمة تلقاها بموت صديقته بفعل جرعة زائدة، فبدأ بكتابة أغاني «الراب» وتأديتها للتعبير عمّا بداخله، واستمر في تطوير نفسه في مجال تصفيف الشعر قبل أن يفتتح منذ شهرين «صالون مودي».
إختار أحمد أن يبقى خارج نطاق مخيمه هرباً كما يقول من الأجواء التي قد تعيده إلى ما كان عليه سابقاً، وها هو الملقب بـ«فرعون» في عالم «الراب»، صار قدوة للعديد من الأطفال في المنطقة التي يقطنها إن كان من خلال غنائه أو من خلال عمله كحلاق.. «أريد أن أحلم مثل باقي الناس، أريد أن أطوّر صالون «مودي»، وأن أفتتح فروعاً له، وأن أعود إلى المدرسة لأتعلم القراءة والكتابة بالعربية، وأن آخذ فرصتي في عالم الراب»، يقول لنا أحمد مودعاً.
أحمد يقف أمام صالون «مودي » خلف المدينة الرياضية