إثبات الذات والقدرة على الفعل والتميّز استحكما بخياراتي. كنت مجتهدة في دراستي في مدرسة القرية لأثبت لأهلي بأنني لست أقل كفاءة من أخي الذي يدرس في المدرسة الخاصة. من ثانوية رسمية في منطقة غنيّة بالتنوّع تخرّجت. كنا نناضل لتأمين تعليم جيد لأولاد الفقراء، وفتح كليات تطبيقية في الجامعة اللبنانية. وكنت مناصرة للقضية الفلسطينية، وبدأت الحرب. أصبحنا "نحن" و"هم".. "فرضت علينا" قالوا لنا، كذلك قالوا لهم. هكذا قيل، وهكذا اقتنعنا. وأصبحت معركة مصير "أن نكون أو أن يكونوا". أصبح الآخر عدواً يجوز قتله وإلغاؤه.
لست بطبعي متفرجة، انخرطت في الحرب. عشتها كمقاتلة مزهوّة بالدفاع عن قضيتي "المحقة". واختبرتها أيضاً كمدنية بعد ولادتي لابنتي التي عرّفتني على الخوف لحظة خروجها الى الحياة.
خلال الحرب، العنف يحكم، والتسلّط يأخذ مداه. السلم يتراجع بمعناه الواسع والمنفتح على كثير من الاحتمالات، كحالة الأمن والاستقرار. ولكنه "السلام" يستنبط أشكالاً جديدة للتعبير عن حضوره، كأن يستوطن أشياءنا الصغيرة ويومياتنا البسيطة. نساند بعضنا بعضاً، ونقدم العون للمهجر والمحتاج. تتخفّف المرأة من أثقال تصبح بالية منسية بفعل تدمير ما هو قائم. فبرغم القصف والقتل والتدمير والموت العبثي، لم تقدر الحرب على هزيمة الحاجة الطبيعية للبشر للعيش بسلام ولو لفترات. لم أهوَ السلاح، بارداً هو كمحايد، حملته لأتساوى مع الرجل، وناضلت لحق النساء في أخذ القرار. خسرت الكثير من الأحبّة والأصدقاء. عملت في مواقع ومجالات عدة، قصصت شعر الرفاق على الجبهة، اشتريت الملابس لهم، واستمعت الى "جمال" - أحد الشهداء- قبل رحيله القسري الى سخرية المجد يحلم بأكل المجدرة مع أمه، سرقت سيارة أبي لأنقل الجرحى الكثر في يوم من أيام الاقتحامات. لم أبكِ أحداً كما بكيت كمال جنبلاط.. بكيت حلماً هوى.. وتتالت الخسارات. بعد زواجي كنت اتسلل خفية الى بيتي الزوجي حتى لا يلحظ الجيران غياب زوجي خلال "شهر العسل" بسبب مهمة أكثر جللاً. وحين يأتي نقضي الليل خوفاً من فراق الغد. القضية هي الأساس فـ"القضايا الكبرى" وقود الحرب، تحيل الذات الفردية الى خردة أو ديكورٍ ممسرح لانتصاراتها أو انهزاماتها.
ولدت ابنتي عام 1983 وعدت للدور "الطبيعي" في البيت. أصبحت أماً ومدنية، وبدأت رحلة أخرى. لن أنسى يوم مشيت في شوارع بيروت أبكي لأن جارنا الدكنجي الذي يديّنني حتى آخر الشهر، لم يكن عنده حليب لأُطعم ولدي. كنت محاصرة بهبوط سعر صرف الليرة وحاجتي وقهري وعوَزي، وكانت بيروت محاصرة بتفجير من هنا وهناك. كان ملعب الأولاد مدخل البناية لحظة هدوء نسبي، أذكر بوابة الحديد كقضبان سجن.
في الحرب كما في السلم لا يتساوى الناس في بلادي، رجالاً كانوا أم نساء. صاحب السلطة له امتيازات تبعده عن مجرى حياة الآخرين... أرقام هم أو رعايا أو مهمّشين. يتفوق الرجال على النساء في الحروب، هم الأقوى جسدياً، والأكثر ميلاً للتسلّط والعنف.. ربما لأن الطبيعة زرعت في النساء نعمة الأمومة... لا أعرف!! لهذا الرجال، خاصة المهزومين منهم، هم الأكثر هشاشة بعد الحرب.. فلا مفرّ للنساء من حمل العبء الأساس في إعادة البناء، وتنظيف ما علق من أوساخ في دولة شبه مستقيلة من مهامها.
كبر الأولاد ومضوا في الحياة.. وراح عمرٌ.. توفر الوقت لمراجعة الذات.. وبدأت الأسئلة بالتوالد.. سألت نفسي مراراً: ماذا جنينا من الحرب؟؟". هل كان هنالك فعلا قضية عظمى وسامية تبرر هذا التدمير العظيم لبلدنا وشعبنا ومستقبل أولادنا؟ ممَّ نخاف ويخافون؟.
حين التقيت من كنت أريد عزله ويريد إلغائي، اكتشفنا كم كنا نجهل بعضنا البعض. كلانا كان يقاتل ظلاً لمخاوفه. لم يكن بالأمر السهل انتزاع الحذر والتقرب من " العدو". انها طريق بدايتها الشكّ بما حفظناه وتعلمناه، والتخلص من مخاوفنا بتنقية دواخلنا مما علق بها من آثام كره الآخر المختلف ومحاولة إلغائه. وصولاً للعمل سويّاً على منع تكرار الحرب.
.. وكان لقاء بعد تردد مع محاربين من أجل السلام وهم مجموعة من المقاتلين السابقين وناشطين من المجتمع المدني من كل الأطياف، توافقوا على التأسيس لثقافة جديدة تحترم التعدد وتغلّب السلم على القتل، والحوار على التقاتل، والمحبة على الحقد. يعتقدون أن لا رابح في أي حرب أهلية، الكل خاسرون، وهي قناعة تعمّدت بالدم والندم.
قال أحدهم: "لقد أصبح العالم مكاناً خطراً للعيش فيه، ليس لوجود الأشرار فيه بل لأن الآخرين لا يفعلون أي شيء تجاه ذلك".
لهذا أنا اليوم محاربة لأجل السلام.
لن نكون متطابقين أبداً، لا باللون ولا بالجنس ولا بالانتماء الديني أو السياسي أو المزاجي: فزهور الحقل يفرحها تنوّع الشكل واللون؛ لهذا تستعجل الربيع.. حتى الخريف يتأنى في عريه ليفسح في المجال لخيارات الشجر، والكائنات لهدف خُلِقت عديدة الأجناس والأهواء وأنماط العيش. فلْنتعظْ بناموس الطبيعة، ونستمتع بعظمته، ونحافظ عليه.