ينسحب هذا الاستخلاص من التجربة السودانية الحديثة على المشهد اللبناني بمراحله المختلفة، وعلى موقع المرأة اللبنانية ونضالها في المحطات السياسية المختلفة.
نضال النساء بدأ مع تشكل الكيان اللبناني بمفهومه السياسي، أي بين تاريخ نيل الاستقلال واندلاع شرارة الحرب الأهلية منتصف السبعينات، حيث شاركت النساء في عملية التحرّر الوطني. تلا ذلك مرحلة الأزمة المفتوحة من عام 1975 الى تاريخ توقيع اتفاق الطائف، والذي لم تشارك النساء لا في صياغته ولا في كل محاولات تطبيقه لاحقاً. خلال سنوات الحرب هذه، حملت كثيرات من النساء السلاح وانخرطن في لعبة الاقتتال الداخلي، في مقابل نساء أخريات فضلن الإبتعاد ولعبن دوراً معاكساً في الحفاظ على ما تبقى من نسيج المجتمع اللبناني، وأخريات تحمّلن مسؤولية العائلة كاملة خلال غياب الرجال وانشغالهم في القتال أو موتهم أو إختفائهم، إضافة الى نساء إنخرطن في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي آنذاك ولاحقاً.
بعدما أنهكت الحرب جميع المتصارعين، كان الميثاق الجديد الذي عُرِف باتفاق الطائف والذي أرسى مرحلة التحوّل أو الانتقال في صيغة النظام السياسي اللبناني والتأسيس لصيغة توافقية أبقت على صيغة اللاغالب واللامغلوب، بحيث أنها أنهت الحرب لكنها لم تحقق السلام والاستقرار إلى اليوم. صيغة لم تشارك النساء اللواتي عشن وشاركن في الحرب وتأثرن بها، في رسم معالمها.
شهد البلد بعد اتفاق الطائف منعطفات سياسية وأمنية وعسكرية منها اغتيال رئيس حكومة لبنان رفيق الحريري، والتظاهرات التي سمّيت بالمليونية وخروج الجيش السوري من لبنان وانقسام اللبنانيين بين محورين جديدين، وما تلا ذلك من اغتيالات وتوترات عديدة منها أحداث 7 أيار/ مايو 2007. وهرباً من حرب جديدة، كانت التسوية في الدوحة في قطر. تسوية آنية لم تلامس جوهر الأزمة المديدة للنظام اللبناني، ولم تشارك النساء في صياغتها.
منذ العام 2005 مشهد سياسي مختلف شهده البلد، في ظل حروب إقليمية أعلت من جدار الإنقسام بين اللبنانيين ترافقها محطات محلية بارزة مثل حملة إسقاط النظام الطائفي عام 2011 وحراك عام 2015 أو ما عُرِف بأزمة النفايات. لا تزال هذه المرحلة قائمة إلى اليوم، ولا تزال تؤطر المسار السياسي للبلد والإستقرار الهش للمؤسسات الدستورية. مسار واستقرار تتواجد فيهما النساء بخجل سواء عبر المشاركة في التظاهرات أو التجييش الإعلامي أو عبر العمل الحقوقي والاجتماعي، كذلك العمل السياسي من بوابة الأحزاب السياسية.
إن غياب النساء عن صورة المشهد السياسي اللبناني إبّان النزاعات الدمويّة، أو في المراحل التي تلتها، أو خلال مراحل الاستقرار الهش، له أسبابه التي لا يمكن تلخيصها.
على المستوى العام، رسم الدستور اللبناني معالم المشهد السياسي الهش وهُوية هذا الكيان الهجين بتجذيره الهُوية الطائفية على حساب الهُوية الوطنية الجامعة. إنعكس ذلك على ملامح الدولة وعلى الفضاءات السياسية المختلفة من أحزاب ونقابات وحركات اجتماعية ما فتئت تعتمد منطق التعبئة المبني على الطائفية، وتفتقر الى الممارسة الديمقراطية السليمة. إنعكس هذا الواقع سلباً على مشاركة النساء في الحياة السياسة وأقصاهنَّ عن لعب دورهن في بناء كيان ديمقراطي وفي التأسيس لسلام مستدام.
يتداخل الحيّز العام بالحيّز الخاص. إن النساء يتحمّلن المسؤولية الأولى عن تربية الأطفال ورعايتهم، والقيام بالأعمال المنزلية. لقد أدى تقسيم العمل بين الجنسين إلى ترتيب الرجال والنساء في مواقع غير متساوية، إنعكست هذه التراتبية الهرمية سلباً على أدوار المرأة السياسية، سواء ضمن الهياكل الرسمية للدولة أو ضمن الفضاءات السياسية المختلفة التي تتبنى معايير الحيّز الخاص للمرأة في تبريرها لضعف تواجد النساء في الحياة العامة ولضعف اتخاذ المبادرات الجدية الهادفة إلى إشراك النساء وتفعيل أدوارهن.
في الخلاصة، لم تبلور الدولة اللبنانية خلال المراحل السياسية المختلفة إرادة سياسية حقيقية هادفة إلى إشراك النساء في مسارات بناء السلام، ولم تترجم التزاماتها الدولية المتمثلة بإشراك المرأة في جميع مفاوضات السلام وجهود إعادة البناء والإعمار بعد انتهاء النزاع، وباتباع نهج متمايز إزاء الطريقة التي يجري بها صنع السلام، بما يلبّي الحاجات المختلفة للرجال والنساء في مجالي الأمن وبناء السلام.
إننا نشهد اليوم على مستوى المنطقة العربية تجارب عديدة للنساء الفاعلات في مسارات بناء السلام لأوطانهن ولا سيما النساء في ليبيا واليمن والسودان وتونس وسوريا اللواتي يشاركن في الحوارات الوطنية، أو في مفاوضات السلام أو في تحقيق العدالة الانتقالية.
السؤال، متى سنشهد حضوراً أكبر للكنداكة اللبنانية في مسار بناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة. دولة المساواة في القانون وأمام القانون. دولة الحماية من مختلف أشكال العنف الذي تواجهه النساء والفتيات سواء في الحيّز الخاص او العام. دولة نساؤها فاعلات لا ضحايا فحسب. دولة لم تعترف بأدوار نسائها ولم توثّق لتجاربهن وما زالت عند كل صباح تعزف نشيد: سهلنا والجبل منبت للرجال.