سفيرة "الفراكة والفريكة"
إن سألتها كيف تُعرّف عن نفسها، بكامل الثقة تقول زينب قشمر (54 عاماً)، بأنها سفيرة "الفرّاكة والفريكة الجنوبية بامتياز". وهو لقب عملت وجهدت لتحقيقه منذ العام 2008 وحتى اليوم. فربّة المنزل التي تركت مقاعد الدراسة في صف الثالث متوسط، لم تتخيّل يوماً بأن إنخراطها في تعاونية بلدتها الجنوبية الحلوسية (قضاء صور)، سيوصلها إلى أن تجوب العالم "بلقمتها الطيّبة وبراعتها في تسويق منتجات المونة اللبنانية التقليدية".
حكاية زينب التي بدأت، بعد تفرّغها لسنوات طويلة في شبابها لتربية أبنائها الثلاثة. وحين كبروا، قررت أن تبدأ بالإنخراط الإجتماعي في بلدتها، فانضمّت إلى تعاونية الحلوسية الزراعية، التي جعلتها تتعرف على "سوق الطيّب"، وتسوّق منتجات خمس قرى جنوبية. وبفضل حنكتها استطاعت بيع جميع المنتجات، وكسبت ثقة المنظمين لعرض منتجاتهاالمميّزة طوال شهر كامل. فخلال هذا الشهر إكتسبت خبرة "الإعلان والتسويق" من دون أي دراية مسبقة، "لساني طيّب متل أكلي". فمن تسويق زيت وزيتون الحلوسية والزعتر والفريكة الجنوبية، تربّعت زينب على عرش الطبخ الجنوبي الذي قلب حياتها رأساً على عقب، وحوّلها إلى سيدة منتجة وفعّالة إجتماعياً وإقتصادياً، تقدم الأكل وفن الطبخ لمن يرغب في تعلمه.
همّها الأول هو الحفاظ على تراث المطبخ اللبناني القديم، ومنع "غزو المدن وأكلاتها السريعة إلى القرى اللبنانية، سواء الجنوبية والبقاعية والجبلية والشمالية". إذ تعتبر زينب أن الأكل حكاية تتأصل جذورها مع الأرض، ولهذا قررت أن توصل إلى العالمية حكاياالأكل الجنوبي. فقامت بالتجوال على المناطق الجنوبية قاصدة كبار السن لتعلّم الأكلات التقليدية القديمة وأصلها وحكايتها، وانفردت في تقديمها في "سوق الطيّب". وما إن ذاع صيتها، حيث جابت العديد من دول العالم كفرنسا والهند وسنغافورة وبلجيكا وسويسرا، لتطبخ الفريكة الجنوبية. تحدّت خلالها قشمر العديد من المعوّقات كاللغة والتواصل، لكن إبتسامتها ومذاق الأكل الطيب كان بمثابة بطاقة التعريف عنها. تفتخر زينب بأنها نقلت للعالم صورة مغايرة عن الجنوب اللبناني الذي يرتبط اسمه بالحروب والتهجير والقتلى والجرحى، من خلال تعريفهم على حقيقة حكاية الأرض وخيراتها التي تصنع منها أكلاتها، والتي تؤكد أنها صحية بإمتياز.
بالرغم من إنتقال زينب للعيش في بيروت، من أجل العمل في "سوق الطيّب" ومطعم "طاولة"، وانتسابها إلى تعاونية أطايب الريف، لم تنسَ تطوير واقع السيدات الجنوبيات اللواتي كنّ منضويات في التعاونية الزراعية في الحلوسية. فهي تستعين بمنتجاتهن الزراعية وهمتهن للمساعدة في تحضير الكميات الكبرى من طبخة الفريكة، مُساهمةً في مساندتهن مادياً ومعنوياً. "فهؤلاء السيدات يحمين الأكلات الجنوبية من الإندثار، ويتربّصن بأرضهن رغم كل الصعوبات". تحمل قشمر، همّ المحافظة على الأشياء القديمة والتصدي لخطورة إنتشار أنماط غذائية أجنبية في المجتمع المحلي كونه يشكل خطراً على الهوية الثقافية، ولا سيما أن واقع الحال في لبنان لا يطمئن، فالتراث الثقافي والغذائي بات في دائرة الخطر. فبحسب زينب، فإن جيل اليوم لا يعرف شيئاً عن الأكل التراثي وهمّه السرعة، ومن أجل ذلك تقوم بتقديم صفوف طهو في لبنان وخارجه ، لمن يودّ التعلم. "هدفي حماية تراث بلدي، فكيف لا أنقله إلى غيري؟".
مسعود: كسرت التقاليد
لا تنسى قشمر أن تُعرّفنا على صديقة العمل ريما مسعود (52 عاماً)، من بلدة الرملية قضاء عاليه، التي لها حكاية أخرى في تطوير الذات والتغلب على واقعها الإجتماعي. فهي ماهرة في خبز الصاج وتقديمه في بلدتها، من أجل تقديم يد العون إلى زوجها الذي يعمل في القطاع الزراعي. إنتمت ريما إلى جمعية "حماية الثروة الحرجية"، التي فتحت المجال أمامها للمشاركة في برنامج تدريبي مع "مؤسسة رينيه معوض لتنمية قدرات المرأة اللبنانية"، وخضعت لدورات تدريبية في الإقتصاد والتسويق والإنتاج والمونة. كانت هذه الدورات بمثابة بوابة العبور من الجبل إلى بيروت، فتحدّت العادات والتقاليد التي تواجه "المرأة الجبلية"، بالعمل خارج منطقتها. فقد كانت جمعية "حماية الثروة الحرجية" بمثابة الداعم لها، وساعدتها في اصطحاب الصاج من الجبل إلى "سوق الطيّب".
في البداية لم تكن تقوى على أن تخبز أمام الناس. لكن التشجيع التي تلقته وتوافد الزبائن اللبنانيين والأجانب لتذوق صاجها، جعلها تتمتع بجرأة كبيرة. النقلة النوعية في حياة ريما، بدّلت أوضاعها الإقتصادية، فكانت الداعم الأول لإبنائها الثلاثة للوصول إلى المراحل الجامعية وانخراطهم في سوق العمل. تحمل ريما رسالة لجميع النسوة بضرورة التمتع بالإستقلالية المادية، والعمل من المنزل سواء بـ"الكروشيه أو المونة أو الطبخ". وتحوّل حلم القدوم إلى بيروت، إلى حلم أكبر بكثير، حيث أوصلها إلى التجوال مع الصاج في بلدان أوروبية وعربية، معيدة الفضل إلى الجمعية التي انخرطت فيها منذ سنوات وطوّرت قدراتها الإجتماعية والتعليمية والإقتصادية.