نحو‭ ‬مقاربة‭ ‬لتعليم‭ ‬التاريخ‭ ‬كفرع‭ ‬معرفي‭ ‬متخصّص‭:‬ تجربة‭ ‬الهيئة‭ ‬اللبنانية‭ ‬للتاريخ

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 01 أيلول 16 7 دقائق للقراءة
نحو‭ ‬مقاربة‭ ‬لتعليم‭ ‬التاريخ‭ ‬كفرع‭ ‬معرفي‭ ‬متخصّص‭:‬ تجربة‭ ‬الهيئة‭ ‬اللبنانية‭ ‬للتاريخ
© عمل للفنان اللبناني رودريغ حرب
على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬الاتفاق‭ ‬الوطني‭ ‬على‭ ‬اقرار‭ ‬كتب‭ ‬مدرسية‭ ‬موحّدة‭ ‬لمادة‭ ‬التاريخ،‭ ‬كما‭ ‬نصّ‭ ‬عليه‭ ‬اتفاق‭ ‬الطائف،‭ ‬وأربع‭ ‬محاولات‭ ‬بارزة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الحكومة‭ ‬اللبنانية‭ ‬لإنتاج‭ ‬منهج‭ ‬التاريخ،‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬اصلاح‭ ‬منهج‭ ‬التاريخ‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬1971 ‭‬
وعلى هذه الخلفية، تأتي الهيئة اللبنانية للتاريخ كمبادرة من قبل مجموعة من تربويي التاريخ والأكاديميين لملء الفجوة والنهوض بنهج يعتبر التاريخ فرعاً معرفياً متخصّصاً. ويقوم هذا النهج على أن السرد التوافقي هو مناقض لطبيعة التاريخ، فالتوافق لا مكان له في التاريخ. إنّ السرد الفردي يحدّ من فرص تعزيز التفكير التاريخي وإعداد الأفراد على التفكير النقدي والإبداعي حول القضايا التي تمسّ حياتهم اليوم. والسرد الواحد، المعتمد حالياً في معظم المدارس اللبنانية، لا يوفّر للأطفال أيّة فرص للقيام بما يقوم به المؤرخون كالبحث عن الأدلة، التساؤل حول التفسيرات والإجابة عن الأسئلة الكبيرة بل يتطلّب منهم فقط حفظ المعلومات لإعادة تلاوتها في الامتحانات. إلا أنّ نهجاً آخر لتعليم التاريخ موجود، ومن خلال هذا النهج الذي يعتبر التاريخ فرعاً معرفياً متخصّصاً يتعلّم الأطفال علم التفكير والتصرّف كمؤرخين مسؤولين. تكمن مهمة الهيئة اللبنانية للتاريخ في ادخال هذا النهج ضمن قيم النهوض بالتعليم في لبنان إلى أعلى المعايير وتربية جيل من الأفراد القادرين على التعامل مع فهم صعب ومعقّد لتاريخنا المتّسم بالتنوّع والصراع والتغيّير.
يحدث التغيير على مستويات عديدة، ونحن نواجه طريقاً مسدوداً على مستوى السياسات. لذا تكون مهمّتنا في الهيئة اللبنانية للتاريخ في المبادرة إلى التغيير بدءاً من القاعدة الشعبية، أي مع المعلّمين. نحن لا نهدف إلى تغيير ممارسات جميع معلّمي التاريخ في لبنان في آن، إنمّا نعتمد نظريّة تغيير طويلة الامد ومستدامة. نحن نؤمن بأنّ التغيير يحدث عندما يصبح المعلّمون خبراء من خلال التعلّم عبر الممارسة. ونحن اليوم نعمل مع معلّمين يبدون اهتماماً كبيراً بالألغاز التاريخية للأطفال والتي تشكّك في الأسباب والتغيّرات وغيرها من المفاهيم التاريخية. إننا نستثمر في هؤلاء المعلّمين. وقد أظهرت الدول في كل أنحاء العالم، سواء تلك المتقدمة النمو أم المتضررة من النزاع المسلح، أنّ هؤلاء المعلّمين الذين يتمتعون بقدرة عالية على التأثير يتأهلون ليصبحوا كتّاباً للمناهج بحيث تقدّرهم حكوماتهم وتعتمد عليهم في مرحلة تصميم المناهج وانتاجها. لذلك، تتوجه رؤيتنا في الانتقال من تعلّم التاريخ باعتماد سرد واحد إلى تعلّم التاريخ كفرع معرفي قائم بحد ذاته، وذلك من خلال دعم المعلّمين وتطويرهم مهنياً ليصبحوا عناصر ذوي تأثير عال في تغيير المناهج الدراسية. وتركّز الهيئة على إستراتيجيتين رئيسيتين لضمان حدوث هذا التغيير. من ناحية، نسعى إلى النهوض بعملية تعليم وتعلّم التاريخ باعتباره فرعاً معرفياً متخصّصاً، من جهة أخرى، نركز على معلّمين يتمتعون بدرجة عالية من الاندفاع وعلى استعداد لإحداث التغيير وكذلك قيادته.
لقد حاولنا في لبنان تعليم التاريخ للطلاب باعتماد نهج السرد الواحد، ومن خلاله يدرس الطلاب رواية تاريخية واحدة تمّ بناؤها بعناية وحصلت على نوع من الإجماع «الوطني» في مرحلة ما. يقدّم هذا النهج سرداً واحداً أو رواية واحدة عن الماضي فيصوَّر التاريخ كواقع وليس كإشكالية، وبناء عليه يتعلّم الأطفال تذكّر الأحداث والسرديّات، وإعادة إنتاجها حرفياً كما ترد في الكتب المدرسية من دون القيام شخصياً بأيّة استفسارات أو تفسيرات أو إعادة بناء للماضي. في الواقع، إنهم يقومون بعكس ما يقوم به المؤرخون تماماً. فالمؤرخون يجيبون عن تساؤلات حقيقية عن الماضي من خلال دراسة الأدلة والتفسيرات المختلفة باستخدام مفاهيم تاريخية تتطلّب مستويات أعلى من التفكير. لذلك، وفي حين يحاول نهج السرد الواحد تقريب الجماعات بتذكّر مجموعة من الأحداث التاريخية التي وجدتها مجموعة من الناس خالية من النزاع، يخسر الأطفال فرصاً تعلّمية غنيّة بالتفكير النقدي والتعلّم التعاوني. وعوضاً عن ذلك، يقتصر تعلّمهم على إستعادة تفسيرات الآخرين عن الماضي، وهي ممارسة تناقض كل أشكال الحياة الديمقراطية. أمّا النهج الذي يعتبر التاريخ فرعاً معرفياً متخصّصاً فيتطلّب إثبات الأطفال قدراتهم على قراءة المعلومات بقدرٍ من المسؤولية واستخدام المفاهيم التاريخية لتقديم الحجج المبنية على الأدلة. وتشمل بعض المفاهيم التاريخية الأساسية (1) السببية (تفسير ما تسبّب في الحدث)، (2) التغيير والاستمراريّة (وصف التغيّرات التي حدثت)، (3) الدلالة (دراسة ما كان مهمّاً وبالنسبة لمن)؛ و(4) أوجه التشابه والاختلاف (المقارنة والتباين). ونلحظ في الصفوف التي تعتمد هذا النهج القيام بمحادثات هادفة ومركّزة بين المتعلّمين، وتعاونهم خلال عمليّة التقصّي، كما تطوير المهارات التواصليّة ومهارات حل المشكلات، وتوسيع النطاق الأخلاقي للمتعلّمين الصغار. إنّ هذا النهج يُعتمد حالياً في الكثير من الدول المتقدمة النمو، إلا أنّ دولاً عدّة شهدت حروباً كما حصل في لبنان نجحت بدورها في الانتقال من نهج السرد الواحد إلى نهج التاريخ كفرع معرفي متخصّص، ومنها قبرص وإيرلندا الشمالية. لقد استغرقت عملية الانتقال هذه سنوات عدة، وفي الكثير من الحالات جاهد معلّمون مندفعون لإحداث التغيير في صفوفهم فنجحوا في نهاية المطاف بنيل ثقة حكوماتهم وكتبوا المناهج الوطنية للتاريخ. لذلك، تقوم استراتيجيتنا الثانية على العمل مع المعلّمين المندفعين لأنّهم في الأساس كتّاب المنهج الدراسي.
منذ إنشائها في العام 2013، نظّمت الهيئة اللبنانية للتاريخ عدداً من أنشطة وبرامج التطوير المهني التي تركّز على التفكير التاريخي، وشارك فيها المئات من المعلّمين. ركّزنا في المرحلة الأولى على مجموعة صغيرة من المعلّمين المندفعين الذين تلقوا برنامج تدريب مكثّفاً على مدى عام كامل مكّنَهم من تغيير تعليمهم من خلال اعتماد نهج التاريخ كفرع معرفي متخصّص وإنتاج وحدات تعليميّة تركّز على تنمية التفكير التاريخي. كما أدّت هذه المرحلة الأولى إلى اختيار ثلاثة مدرّبين مبتدئين انضمّوا إلى فريق الهيئة اللبنانية للتاريخ في المرحلة الثانية التي هدفت فيها الهيئة إلى التوسّع إلى مناطق أخرى. ولقد تمّ تصميم رزمة من ثلاث ورش عمل في ثلاثة أيام كاملة تمّ تقديمها تباعاً في بعقلين وطرابلس وكفرجوز. شارك مائة وعشرون معلماً ومعلّمة في هذا البرنامج الذي قدّم مدخلاً إلى التفكير التاريخي واستراتيجيّات لتطبيقه في صفوف التاريخ. ولقد أثرنا اهتمام المعلّمين الذين أدركوا أنه على الرغم من الصراعات التي لا تنفكّ تطرأ على المستوى الوطني، ثمّة سبيل للخروج من مأزق منهج التاريخ وفرصة لتطوير تعليمه. أمّا المرحلة الثالثة التي سيتم إطلاقها خلال العام الدراسي 2016-2017 فستقدّم مرة أخرى تدريباً أكثر تركيزاً وكثافة لمجموعة من أربعين معلّماً ومعلّمة لمادة التاريخ تمّ رصدهم كمعلّمين مندفعين ومقتدرين. والهدف من هذه المرحلة هو توسيع فريق التدريب بحيث يتوفّر فريق أساسي من شأنه أن يكون في نهاية المطاف في خدمة وزارة التربية والتعليم خلال عملية صناعة منهج التاريخ ووضعه قيد التنفيذ.
 
 
النجاحات والتحديات
منذ أن بدأت الهيئة اللبنانية للتاريخ مسارها، شهدنا قصص نجاح وفشل قُدّمت، تغذّي التفكير عند القيام بمحاولات مستقبلية لتطوير تعليم التاريخ في لبنان. وإحدى قصص النجاح هذه تتمثّل في شجاعة إحدى المعلمات، واسمها أميرة الحريري، في تناول أسباب الحرب الأهليّة اللبنانيّة من خلال تصميم وحدة تعليميّة استكشافية وتطبيقها في صفوفها. وبحسب كريستين كاونسيل من جامعة كامبريدج، التي قادت برنامج تدريب المعلّمين عام 2014، «تمكّن طلّابها [أي طلاب أميرة] من الاستعانة بالتفكير المتخصّص، بطريقة هادفة، لإيجاد المسافة الفكرية اللازمة والدقّة لمناقشة موضوع معقّد ومثير للجدل ذي أهمية بالغة في بلادها. فبدأتُ أرى أن اتباع نهج المجال المعرفي المتخصّص قد زوّدها بالأدوات الفكرية لمؤازرة شجاعتها الأخلاقيّة». لقد حصلت هذه المعلّمة على دعم إدارة مدرستها في تجربتها لنهج جديد لتدريس التاريخ. وفي حين تمكّن بعض المعلّمين من اتخاذ خطوات شجاعة للابتعاد عن السرد الواحد للتاريخ، واجه البعض الآخر منهم صعوبات أكبر. تحمّس بعض المشاركين لطرق التدريس المبتكرة والنشطة التي كانت تُستخدم عند اعتماد نهج التفكير التاريخي [...] إلّا أنّهم في بعض الأحيان، اعتبروها هي الهدف الأساسي، وليس أدوات تطبيق المنهج أي التفكير التاريخي أو الحجة التاريخية. كما انشغل بال كثيرين بتطبيق الكتاب المدرسي واتمامه في الوقت المحدد. وتردّد البعض منهم في تحدّي ممارساتهم الخاصة وإعادة النظر فيها، في حين شكّك آخرون في قدرات الطلاب على بناء تفسيرات خاصة بهم للأحداث التاريخية. وكان التحدي الرئيسي أمام تجربة طرق جديدة لتدريس التاريخ، هو التحلّي بالتواضع للتشكيك في ممارستهم الخاصّة.
وفي حين أنّ الطريق أمامنا طويل لتحقيق هدفنا المتمثّل في إعادة النظر في التاريخ كفرع معرفي قائم بحدّ ذاته وابعاده عن التسييس، إلاّ أننا نعرف أنّ أيّ نهج ينطلق من القاعدة الى الأعلى ومن التعاون مع صنّاع السياسات سيجعل هذه الرحلة أقصر وأكثر نجاحاً. لذلك، نحن نعوّل على معلّمي التاريخ والمؤرّخين الشجعان وعلى صنّاع السياسات المستعدّين لإعادة النظر في عقود من التفكير التقليدي الذي يكبح التقدّم في هذا المجال.
A+
A-
share
أيلول 2016
أحدث فيديو
الأكثر مشاهدة هذا الشهر
10 كانون الأول 2024 بقلم زهراء عياد، صحافية
10 كانون الأول 2024
بقلم زهراء عياد، صحافية
07 كانون الأول 2024 بقلم نايا فجلون، صحافية
07 كانون الأول 2024
بقلم نايا فجلون، صحافية
تحميل المزيد