تبدّلت أهمية تعليم مادة التاريخ في منتصف القرن الماضي. تقليدياً، لطالما كان يُنظر إلى التاريخ باعتباره مادة لتثقيف الأفراد، فكان يسمح لهم اقتباس التواريخ المهمة من الماضي وتذكّر الأحداث، فيبـدون من حديثهم كما لو أنّهم على دراية بكل ما حـدث في الماضي، وكانت هذه الرؤية تتطلّب منهم حفظ الأسماء والتواريخ والأحداث. لكن الغاية من تدريس التاريخ تبدّلت مع مجيء الإنترنت وإتاحته ثروة من المعلومات التاريخية في متناول يدينا. تعـتبر الاتجـاهات الحالية أنّ التاريخ هو فرع معـرفي متخـصّص بمفاهيمه وأدواتـه الخاصـة التي تساهم في التفكير عـلى مستويات عليا. إنّ تدريس التـاريخ لـه تأثير كبير في تشكيل هوياتنا الفردية والمدنية والسياسية والأخلاقية.
إنّ الغرض الرئيسي وراء قرار الدول إدراج مادة التاريخ في مناهجها الوطنية لا يزال بناء المواطنة. وعلى الرغم من استغلال الحكومات لها في كثير من الأحيان لأغراض سياسيّة، إلاّ أن مادة التاريخ يمكن أن تساهم في بناء المواطنة، فهي تمكّن الأفراد من التعامل مع الأحداث من وجهات نظر عديدة، والبحث في الأسباب والنتائج، وفهم التغيّر وتقييم الأهمية، وتحليل التفسيرات التاريخيّة المتعارضة.
يساعدنا التاريخ على فهم أفضل للحاضر. إذا أردنا أن يفهم تلاميذنا لماذا يتصرّف السياسيون كما يفعلون، وكيف يعمل المجتمع، وكيف أضحى عالمنا كما هو اليوم، فهم بحاجة إلى دراسة الماضي الذي يلقي الضوء على تعقيدات المجتمعات الحاليّة، ومن خلال هذه العملية ينظرون في الروايات المتباينة وكيفيّة التوفيق بينها.
إن بناء المواطنة المسؤولة، وإعداد القادة السياسيين ورجال الأعمال والمهنيين المستقبليين، يعتمد على تعزيز قدرة الطلاب على تفحص الأدلة، والنظر في التفسيرات التاريخية، واستخلاص الاستنتاجات الخاصّة بهم، والانخراط بهدوء في محادثات مركزة حول أي موضوع كان.
كما أنَّ التاريخ يدفع التلاميذ للانخراط في التأمل الأخلاقي. يتأملون في شخصياتهم من خلال النظر في تصرفات الآخرين في الماضي، ومن هنا أهميّة التدريس عن الأشخاص العاديين والعائلات والأحياء وليس فقط عن القادة والرجال والنساء الاستثنائيين. ومن خلال تدريس التاريخ تُطوّر مهارات التفكير والتواصل الضرورية للأفراد للتفاعل الإيجابي في مجتمعهم وبيئتهم.
كيف ندرّس مادة التاريخ
نعمل في الهيئة اللبنانية للتاريخ منذ خمس سنوات على تطوير نموذج تعليمي للفصل الدراسي في لبنان. نركّز من خلاله على بناء التفكير التاريخي. ماذا يعني هذا عملياً؟ يتعلّم التلاميذ التفكير كالمؤرخين. لفهم الماضي، يبدأون بطرح أسئلة كبيرة على مثال «لماذا اندلعت حرب في لبنان عام 1975؟»، يستخدمون مصادر عديدة تقدّم وجهات نظر مختلفة، فيقومون بتحليلها ومقارنتها واستخلاص استنتاجاتهم وتطوير تفسيراتهم الخاصّة. وهكذا، يتم تـدريب التلاميذ على التفكير النقدي واستعراض المناظير المختلفة واتخـاذ القـرارات والمسـاهـمـة في حـوار أوسـع حـول المـاضي.
يستلزم نموذج الفصل الدراسي استراتيجيات تعليمية تسعى إلى تطوير المهارات والقدرات اللازمة في مجتمعاتنا الحالية والمستقبلية. يجب أن يتعلم الطلاب في الفصول الدراسية لمادة التاريخ كيفية العثور على الأدلة واستخدامها، وطريقة التحدّث والكتابة بوضوح وبشكل هادف، وكيفية إيصال الأفكار شخصياً أو إلكترونياً، وكيفية الانخراط في الحوار البنّاء، وكيفية التفاعل في مجتمع ديمقراطي، وكيفية تحمّل المسؤولية الفردية والجماعية، وكيف نتصالح مع الماضي وبالتالي مع الحاضر. في الواقع، يصبح تعليم التاريخ آليّة مهمّة لتنمية الفرد وصون المجتمعات، ما يشكّل مكوناً حيوياً في التربية.
بعد أن طال أمد مأزق المناهج في لبنان، حان الوقت لإعادة النظر في كيفية تفكيرنا في التاريخ وأهدافه واستراتيجياته. لا يمكننا مواصلة تهميش تدريس مادة التاريخ والذي يؤدي إلى جهل أجيال من الشباب لماضيهم وكيف أدّى الماضي إلى الحاضر. وعلى الرغم من أنّنا ندرك دور السياسة في إصدار المناهج، إلا أنه حان الوقت لإيداع مهمّة تصميم مناهج التاريخ في لبنان في أيدي الأكاديميين والمتخصّصين بعيداً عن التجاذبات السياسية.