أُعلن السلم في لبنان عام 1990* من دون أن يلتفت إلى مأساة المفقودين وذويهم، مما يعني أن السلمَ كان ولا يزالُ منقوصاً، هشّاً ومهدّداً بالتراجع.
المُبكي في مسارٍ رسميٍ أخطأَ في طيِّ صفحةِ الحرب صار مضحكاً بلجوءِ هذا «الرسمي» إلى اتهامِ أهالي الضحايا بتهديدِ السلمِ الأهلي، والتأسيسِ لحربٍ جديدة كلما طالبوا بحقِّهِم بمعرفةِ مصيرِ مفقوديهم.
أكثر ما يَفضحُ هشاشةَ هذا «السلم» عودةُ خطابِ المتاريسِ على ألسنةِ المسؤولين في أيِّ حين وعند أي خلاف، واستباحةُ أنصارِهِم الشارع، عابثين بأمن الناس وسلامتهم.
بعد انقضاء 29 عاماً على إعلان ذلك السلم الآتي «من فوق ومن برّا»**، صدر قانون «من تحت ومن جوّا» بهدفِ تمتينِ السلمِ الأهلي من خلال الكشفِ عن مصيرٍ المفقودين والمخفيّين قسرياً، وفق ما ورد في أسبابه الموجبة***.
نجح أهالي المفقودين والمخفيين قسراً بتكريس حقِّهم بمعرفة مصير أحبائهم بنصٍ قانوني. تطبيقُ أحكام القانون يشكِّلُ الممّرَ الإلزاميَ للمصالحةِ الحقيقية. وحدها الحقيقة عن مصير المفقودين، أحياءً أو أمواتاً، تفتحُ بابَ التسامح. الاعترافُ بجرائمِ الحربِ وبحجمِ الظلمِ الذي وقعَ على ذويهم يساهمُ في التخفيفِ من معاناتِهم المزمنة وإخراجِهم من وضعية «الضحية».
معرفةُ الحقيقةِ حقٌ قوننه الأهالي. هو حقٌ مجتمعيٌ بامتياز ينسحبُ على معرفةِ كل الحقائق، ويؤسّسُ لإعادةِ بناءِ الدولةِ على ذاكرةٍ موحّدة، على أسسٍ المساواةِ والعدالةِ والديمقراطية. فإقرارُ الدولةِ بالبحثِ عن المفقودين يعني البحث عنهم كبشر، كمواطنين متساوين من دون أي تمييز طائفي أو مذهبي أو مناطقي لا كرعايا طوائف. وهذا هو أول مدماك لبناء السلام وتحصين المجتمع من الانزلاق مجدّداً إلى التقاتل.
ربَّ قائلٍ يقول: كفى تنظيراً وتهليلاً لهذا القانون، وهل من دولة في لبنان لتنفذّه، أكيد عم تحلموا؟!.
من حقّنا أن نحلمَ بوطن لأنَّ «الفول صار «بالمكيول». حتى ينضج يلزمنا «دلو» معلومات من الجميع، مرتكبين وغير مرتكبين، ليستفيد الجميع من مقايضتنا المعرفة بالغفران لأننا نتطلّع إلى قيامة وطن يوحِّدنا على قيم السلم الحقيقية.
«مالْحينا» يا دولة، وساهمي معنا ببناءِ السلمِ الأهلي.
* بتاريخ 5/11/1989، صدّق مجلس النواب وثيقة اتفاق الطائف التي تمّ بموجبها الإقرار بوقف الأعمال الحربية في لبنان
** المرجع ذاته، المقصود اجتماع نواب لبنان في مدينة الطائف، في المملكة العربية السعودية، والموافقة على وثيقة الطائف
*** بتاريخ 30/11/2018 أصدر مجلس النواب القانون رقم 105 (قانون المفقودين والمخفيّين قسراً)، نتيجة نضال دؤوب لأهالي هؤلاء الضحايا دام 36 عاماً