إن النزاعات بين البشر وخصوصاً الحروب الأهلية القائمة على العصبيات الطائفية أو العرقية أو القبلية تقتضي دائماً عند انتهائها نوعاً من العفو عن الجرائم المرتكبة من كل صوب، وتحديداً إذا كان على الفرقاء أن يستمروا في العيش معاً. ولكن هذا العفو الضروري لا يجب أن يكون تمييزياً (أي أن يعفو عن البعض من دون الآخر) ولا يمكن أن يكون مفصولاً عن باقي المكوّنات التي تحيط به، أي المعرفة والحقيقة والغفران على سبيل المثال لا الحصر. تماماً كما لا معنى ولا وجود أصلاً للذاكرة بدون النسيان. في لبنان، انتهت الحرب الأهلية التي عصفت بنا بدءاً من السبعينات بقانون عفو جمع بين التمييز والنسيان حصراً.
بفضل نضال نموذجي خاضته حفنة من النساء (وبعض الرجال) خلال عقود طويلة وبعد طول انتظار، صار عندنا منذ أشهر قليلة قانون أقره مجلس النواب ينشئ هيئة وطنية مهمتها الوحيدة البحث عن المفقودين في الحرب (أو الحروب) اللبنانية، وهم آلاف من المواطنين والمقيمين (وبعض المواطنات والمقيمات). هذا القانون هو تكريس لحق يعود إلى أهالي المفقودين بمعرفة مصير أحبّائهم وذويهم. إنه حق صارت تكرّسه المواثيق الدولية، وكذلك كافة الشرائع الدنيوية والدينية.
حق المعرفة هو حق حصري لذوي المفقودين. ولكي لا يبقى هذا الحق حبراً على ورق، على الدولة والمجتمع أن يقوما الآن - بعكس ما (لم ي) فعلاه في نهاية الحرب اللبنانية - بواجبهما. فالدولة حينها لم تبحث عن المفقودين الذين هم أولادها. أما المجتمع ففضّل سدّ آذانه وصرف أنظاره. القانون رقم 105 الصادر في 18/11/ 2018 يوفّر لها فرصة جديدة للقيام بالواجب: واجب الدولة أن تنشئ الهيئة الوطنية وإن توفّرت لها شروط عملها بجدية وطمأنينة، وكذلك أن تربّي الأجيال عما حدث لكي لا يحدث مجدداً. أما المجتمع، فمن واجبه أن يستوعب ما حدث لكي يحضن لحظة إدراك المعرفة أخواتنا وإخوتنا من أهالي المفقودين.