واللافـت أن هـذه الخطوة الرياديّة والنموذجيّة، التي أطلقتها الهيئة اللبنانيّة للتاريخ، بالشراكة مع منتدى خدمة السلام المدنية dfz muroF، شملت أكثر من مئتي تلميذ نفذوا مشاريع لجمع التاريخ الشفهي من خلال مقابلات أجروها مع شخصيّات قاموا باختيارها من مجتمعاتهم لتخبرهم عن الحياة اليومية في مناطقهم خلال فترة النزاعات العنفية، وتساعدهم في تكوين صورة عن التغيّرات الاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة التي أصابت نمط يوميّات اللبنانيين. فبعض المجموعات اختارت الإضاءة على التأثيرات التي طالت التعليم كالظروف التي كان يدرس التلامذة فيها، فيما اختارت مجموعات أخرى البحث في التغيّرات التي أصابت أنماط ووسائل التنقل، أو النزوح، إضافة إلى موضوعات أخرى كدور المرأة خلال هذه الظروف الصعبة.
تاريخ الناس
«هذه المقاربة جديدة في لبنان في مجال تعليم التاريخ، ركزنا فيها على تاريخ الناس»، قالت رئيسة الهيئة اللبنانية للتاريخ نايلة خضر حمادة. والأهم في هذا المشروع، الذي يمتد لسنتين، وفقاً لها، «أنه ساهم في إدخال مقاربات جديدة لصانعي المناهج بحيث يتم التركيز على التاريخ الإنساني الاجتماعي عند تناول مراحل دقيقة، وتعزيز قدرات التلامذة على التفكير نقدياً لأخذ العبر من الماضي وفهم الحاضر بشكل أفضل». وأشارت إلى «ما يكتسبه التلامذة من خلال هذه التجربة خلال جمع هذه الروايات والتواريخ الشفهية، من مهارات تعلّمية أساسية، مثل طرح الأسئلة، وتحليل الرواية التاريخيّة ونقلها». وأضافت: «العنصر الأكثر إثارةً للاهتمام في هذا المشروع هو أنه يمنح التلامذة القدرة والثقة بالنفس لتقديم مساهمة فريدة من نوعها في السجل التاريخي عن موضوعٍ ذي أهمية كبرى لحاضرهم ومستقبلهم. وهو يكوّن أيضاً رؤية أوضح للماضي، ويساعدهم على بناء فهمهم الخاص للماضي بقدرة أكبر على تقبل الاختلاف والتنوع واحترام الآخر».
من جهتها، قالت مديرة المشروع في منتدى خدمة السلام المدنية جيني مونرو: «ارتأينا أن يكون المدخل إلى مراجعة الحقبة الأخيرة من تاريخ لبنان من خلال الغوص في تجارب الناس العاديين»، موضحة أنّ المشروع يسعى إلى إشراك مجموعات عديدة في نقاش حول النزاعات العنفية، يكون جامعاً ومحترماً للتنوع والاختلاف، وذلك من خلال إطلاق حديث عابر للأجيال بين الطلاب وأشخاص شهدوا النزاعات بأم العين، والعمل مع المعلمين والطلاب انطلاقاً من قناعتنا بأن هذا المسار سيشجّع على مقاربة روايات عديدة حول هذه النزاعات بعيداً عن التحليلات السياسية ووصف المعارك».
أضافت: «في الواقع، يُتيح التاريخ الشفهي تسليط الضوء على سرديّات ووجهات نظر متعدّدة عن الماضي، ما يجعله مقاربة مفيدة وناجعة، على وجه الخصوص في التعاطي مع الماضي، لاسيما عندما يكون هذا الماضي موضع خلاف وسجال». من جهتها توضح إحدى المعلمات المشاركات في المشروع، «عملنا مع التلامذة على إعداد أسئلة الراوي مع إمكانية ان يتفاعل التلميذ مع أي سؤال خلال سرد الراوي لقصّته»، مشيرة إلى أن التلامذة «اكتشفوا أنّ معاناة الناس هي واحدة خلال النزاعات العنفية. فلا أحد يربح عند استخدام العنف، بل الكل يخسر ووجع الناس هو ذاته في كل القصص».
من الأسفل إلى الأعلى ما هو التاريخ الشفهي وما هي أهميته؟
عـرّفت الخبيرة في هذا العلم والمستشارة في هذا البرنامج الدكتورة ماريّا أبو النصر أن «التاريخ الشفهي هو حقلٌ من حقول الدراسات، ينضوي على تسجيل المخزون الكلامي الذي ورد على لسان الناس الذين عايشوا مرحلة ما وحفظ ذكرياتهم وتفسيرها». وبالنسبة إليها، «يتطلب، بوصفه حقلاً دراسياً، مقاربات ومناظير عديدة، بما يُتيح رواية التاريخ من أسفل الهرم إلى أعلاه، بدلاً من العكس، أي روايـة الناس في وجه الرواية المستقاة من أصحاب السطوة». وأشـارت الى أنه «يُركز على تسجيل ما يرد على ألسنة أشخاص هم غالباً غير مدرَجين في السردية «الرسمية» للتاريخ».
وانتقلت إلى لوجستية المشروع مشيرة إلى أنّ المدرّسين تعرّفوا «على امتداد أربع ورش عمل، على التاريخ الشفهي في النظرية والممارسة، بغية العمل مع تلامذتهم على جمع تواريخ شفهية في مجتمعاتهم المحلية».
ثمّنت إحدى المعلمات المشاركات بورش العمل، المشروع، معتبرة أنه «يرتكز على تجارب شخصيّة لأهل المنطقة ولا دخل للسياسة ولا للتدخلات السياسية في تلاوة الحوادث التي نقلها الناس أنفسهم». وعبّرت عن توقها لافتتاح المعرض النهائي بمشاركة التلامذة، والأسر الإدارية والتربوية وأهالي المناطق التي أجريت في البحوث، والمجتمع المدني لنتعرف جميعنا على تاريخنا الاجتماعي. وأضافت معلّقة على البرنامج «لقد تمرّسنا في ورش العمل على طرائق تعليم المادة بأساليب تفاعلية، وساهمنا من خلال حصة كاملة كلّ أسبوع في نقل التلميذ من مجرد متلق للمعلومة إلى مشارك فاعل بها».
هكذا، يترجم التاريخ الشفهي عملياً مقاربة مثالية لتقريب المسافة بين أبناء الجيل الناشىء، وهو أسلوب تربوي سلس ومشوّق ليتعرف من خلاله التلامذة على أن المعاناة هي ذاتها، والوجع هو نفسه في أيام الشدة والخوف والحرب... التاريخ الشفهي كان يمكن أن يكون أمثولة لردع الحرب بين الناس، ولجعل ذكرى 13 نيسان «تنذكر وما تنعاد».