حرارة الصف
المتشابهون غالباً ما لا يأبهون بما يقوله زملاؤهم أو أساتذتهم أو طلابهم بقدر ما يتوقعونه، وإذا انتبهوا فإما لأن أحدهم استحضر آخرَ مُتخَيَلاً وهاجمه، فيصفقون له، أو إذا قال أحدهم شيئاً مختلفاً فيستنكرونه. المتشابهون يفضلون الخطاب المعياري.
لم أدرك ميزة التنوّع في الصف والديناميكية التي يطلقها إلا بعدما عدتُ أستاذاً في كلية التربية، في العام الدراسي 1977-1978، في المبنى نفسه، في منطقة الأونيسكو. كانت الجامعة اللبنانية قد تفرّعت، وأصبح المكان الذي درست فيه سابقاً اسمه «كلية التربية - الفرع الأول». المشهد هنا أصبح شديد التجانس: موظفون مسلمون، وأساتذة مسلمون، وطلاب مسلمون (59%). في حين أن الفرع الثاني يقع في منطقة الروضة (الدكوانة) وجمهوره مسيحي إدارة وأساتذة وطلاباً (59%).
ثم تأكد لي الفرق بين الصف المتجانس والصف المتنوّع عندما علّمتُ لاحقاً في صف الماجستير. ودراسة الماجستير تتم في مبنى العمادة (فرن الشباك) المختلط. به يلتحق طلاب تخرّجوا من الفرعين. أذكر أنني اخترت يومها موضوعاً في مادة منهجية البحث التربوي هو التديُّن (وقياسه). وفي الصف مؤمنون وغير مؤمنين، ومسلمون ومسيحيون ودروز، وراهبة، وحزبيون وغير حزبيين. وبينما كان صف الليسانس في الفرع الأول يجرجر متثائباً حتى نهايته، فإننا في صف الماجستير كان يفوتنا دائماً أن الوقت قد انتهى بسبب حرارة النقاش، وحماسة الانخراط فيه، وفضول الاكتشافات المتتالية لتباين المعاني، ليس فقط بين الطلاب، إنما بدرجة أولى بين الوقائع والمواقع من جهة والتصورات والأحكام المسبقة والمنمَّطة من جهة ثانية. وغالباً ما كان وهج النقاش ينتشر بعد الصف حتى نهاية الممر.
توليد الأفكار
إن كل اختلاط أياً يكن نوعه هو مصدر إفادة للجميع، سواء كان هذا الاختلاط بين المناطق والطوائف والأديان والأعراق، أم بين الطبقات الاجتماعية، أو بين الجنسين. فالانغلاق، كل انغلاق، معيق على المستوى الانفعالي والفكري. والحضارات لم تتطور إلاّ من خلال الاختلاط بين البشر، وتمازج الأفكار وتفاعلها وتلاقحها. ومبادئ حقوق الإنسان حول تكافؤ الفرص أو مبادئ العدالة الاجتماعية حول عطاء أكثر لمن لديهم أقل، ليست سوى صياغة توجيهية لهذه الفكرة حول الاختلاط بين البشر فضلاً عن حفظ كرامتهم كبشر.
في كلية التربية، حتى منتصف السبعينات، كانت الكافتيريا وقاعة المحاضرات بأهمية الصفوف. وهذا ما يمكن تسميته بالمنهج الموازي. والمنهج الموازي حرّ ومفتوح في صناعته وتطبيقه وتعديله على الفاعلين فيه، من طلاب وأساتذة وإداريين. في ذلك الوقت كان هناك يسار ويمين، أحزاب وأمزجة. وكان هناك محافظون وليبراليون، تقليديون ومجددون. ذكور وإناث. من جيل واحد. وبسبب تفرّغ الطلاب للدراسة بمنح من الدولة، كانوا يقضون كل وقتهم في الكلية بين الصف والكافتيريا وقاعة المحاضرات. في هذا المناخ المختلط حصل التعارف والتفاعل والتلاقح بين الأفكار، وتولّدت اتجاهات فنية وفكرية وسياسية وشبابية لم تكن لتولد لولاه. هنا نشأت حركة «الوعي» الطلابية التي تكوّنت في البداية من طلاب مسيحيين وقفوا ضد حزب الكتائب، وصارت منظمة يسارية غير شيوعية. انخرطت الحركة في العمل الطلابي والنقابي والوطني وانتشرت في جامعات أخرى. وهنا نشأت مدارس جديدة في الأدب والشعر، أبرزتها اللقاءات والندوات التي ازدهرت في الكلية. ومن جيل ذلك الاختلاط تكوّنت لاحقاً رابطة الأساتذة المتفرّغين في الجامعة اللبنانية التي وفر لها تنظيماً مختلطاً، دافع عنها حتى خلال الحرب وبعدها، وجعلها تعيش إلى يومنا هذا.
ما بعد انقسام الجامعة اللبنانية في فروع، اندرج الطلاب الجدد في الجامعة في النزاع السياسي المستجد، وانفرط عقد اتحاد طلاب الجامعة اللبنانية (المختلط)، ولم يقم حتى يومنا هذا. وانفرط عقد حركة «الوعي» التي كان لها دور في إنشائه. تكوّنت محله مجالس طلابية تخص كل فرع على حدة. وصارت هذه المجالس تتوارث نفسها بانتخابات أو من دون انتخابات. وأصبح لكل فرع منهجه الموازي، المنغلق على ذاته والذي يكرر نفسه بشعارات واحتفالات تخص كل جهة سياسية مسيطرة على الفرع.
الحراك الاجتماعي
إن الاختلاط بين جماعات وشرائح اجتماعية متنوّعة يرجّح مضمون أجندة الطلاب والأساتذة والإدارة نحو المسائل العامة. أما الانغلاق على جماعة سياسية ذات هوية واحدة فيغذي غُلاة الدفاع عن حقوق الجماعة ويعزّز نظام الحماية. ويتم ذلك على حساب معايير الكفاءة والاستحقاق. وتنحدر بذلك نوعية التعليم، وتتراجع فرص الحراك الاجتماعي، أي تقل فرص من هم أدنى في السلَّم الاجتماعي بالصعود التربوي والاجتماعي.
لقد بيّن تقرير جيمس كولمان منذ العام 1966 كيف أن الاختلاط بين طلاب التعليم العام السود (الأفقر) والبيض أفاد الطلاب السود، أكثر مما استفادوا من المدارس المقتصرة على السود فقط. والسبب هو أن الإختلاط يزيد فرص التعلّم عن طريق الأقران. وقد توصلتُ إلى نتائج مشابهة في دراسة عن التعليم والحراك الاجتماعي في مدينة صيدا في العام 1980. كما بيّن تحليل توزّع طلاب الجامعة الأميركية في بيروت، في الفترة التي كانت فيها مؤسسة الحريري تقدم منحاً للطلاب ذوي الدخل المحدود لارتياد الجامعة (في التسعينات)، أن التركيب الاجتماعي للجامعة قد تغيّر من الناحية الطبقية. في تلك الفترة أيضاً بيّنت دراسة أجريت على الطلاب الجامعيين في لبنان، أن الجامعة الأميركية في بيروت كانت الأكثر اختلاطاً بين المسيحيين والمسلمين، مقارنة بجميع الجامعات الخاصة والجامعة اللبنانية. (ليس لدي معطيات موثقة حول أحوال الجامعات اليوم).
هناك مبادرات متعددة لتوفير الاختلاط الطبقي حالياً، ومن ثم الحراك الاجتماعي. فوزارة التربية والتعليم العالي بدأت منذ سنوات عدة بإعطاء منح دراسية كاملة للطلاب المتفوقين في الامتحانات الثانوية لها مفاعيل مشابهة اجتماعياً. ومن أهم «المبادرات» وجود ما يسمى بـ «الكليات الموحدة» في الجامعة اللبنانية. وهي كليات من دون فروع. ويجري الالتحاق بها عن طريق المباريات. ويسود الالتحاق بها تنافس شديد بين أصحاب الكفاءات. لذلك وفرت اختلاطاً من النوعين، ما بين الطوائف وما بين الطبقات الاجتماعية. وهي دليل إضافي على العلاقة بين الاختلاط الاجتماعي والانفتاح القِيمي وجودة التعليم والحراك الاجتماعي.
هذه التجارب الناجحة ما زالت صغيرة في نطاقها، خاصة أن طلاب «الكليات الموحدة» لم يشكلوا في العام 2016/2017 سوى %4.7 من مجموع طلاب الجامعة اللبنانية. لكنها تستحق التأمل والنظر في فرص اعتماد مبادئها في السياسة العامة للدولة اللبنانية، إن في ما يتعلق بالتعليم الخاص أو بالجامعة اللبنانية.
الجامعة تجمع
هكذا في اللغة العربية. أما في اللغة اللاتينية فهي تحيل إلى «الكل» (universitas, universus).
يشيع في لبنان منذ التسعينات فتح الجامعات الخاصة فروعاً لها هنا وهناك. وفي الجامعة اللبنانية يشيع فتح الفروع والشُعب في المناطق، حتى أصبح عددها اليوم 68 فرعاً وشعبة. وفي ذلك فكرة «خدمة الجمهور» المعاكسة لمعنى الجامعة. تبحث الجامعات الخاصة التي تفتح فروعاً عن زبائن (بالمعنى الاقتصادي للكلمة)، وتبحث الجامعة اللبنانية عن زبائن (بالمعنى السياسي للكلمة).
في القطاع الخاص، تلحق الجامعة زبائنها المحتملين إلى قراهم وبلداتهم. وتوفر لهم تعليماً «من حواضر البيت» و"بأسعار متهاودة". أما وزارة التربية والتعليم العالي فتمعن في منح التراخيص، وفي تجنّب الرقابة إكراماً لعيون طالبي الخدمة من النافذين. طالبو الخدمة من النافذين إما يستعملون الجامعة لأغراض تجارية، أو يستعملونها من أجل خدمة الجماعة. وفي جامعات الجماعات يتم «تسهيل» تعليم الطلاب من أجل توفير الحراك الاجتماعي لهم، إذا ما توفر، من «داخل الطائفة» أو توفير إعادة إنتاج نخب الطائفة.
وبدلاً من أن تقيم الجامعة اللبنانية مجمعاً جامعياً راقياً في الشمال مثلاً (أو في الجنوب أو البقاع)، توفر فيه جميع الأبنية والتجهيزات اللازمة، وتحشد أفضل الأساتذة، وتوفر مساعدات لأبناء ذوي الدخل المحدود الآتين من مناطق بعيدة، فإنها تنشئ فروعاً في البلدات، بأدنى الشروط. والذريعة المعلنة أن الدولة بذلك تخدم أبناء المناطق البعيدة. أما المسوّغ غير المعلن فهو استثمار هذا العمل سياسياً، الذي يلاحظ في ضخامة الحشود السياسية والتهليل بما تمّ افتتاحه. ثم أن هذه مناسبة للسياسيين في تعيين أساتذة ومديري شعب وإلحاق طلاب، وكسب ولاء أهل المنطقة، هي سياسة شعبوية إذا صحّ التعبير.
الجامعة بعد أن تجمع ما بين المختلفين، يجب أن توفر فضاء جديداً، يشعر فيه الطالب أنه انتقل إلى عالم جديد وآفاق جديدة. الجامعة ليست مدرسة أعلى في البيئة نفسها. وعندما تعطي الجامعة شهادات فلا بد من أن تكون لهذه الشهادات قيمة مهنية وفكرية. الجامعة ليست معهداً عالياً للتعليم التقني. ليست تخصصاً. هي مكان يدرس فيه الطالب اختصاصاً ويتعرف في الوقت نفسه على معارف جديدة وأشخاص جدد. وهي مكان يوفر قدراً كافياً من المساحات في الوقت والمكان لكي يتفاعل الطالب مع زملائه في أنشطة حقيقية (المنهج الموازي)، بما في ذلك التعارف ما بين الجنسين. وإلا كيف تسهم الجامعة في رفع الرأسمال الاجتماعي للمتخرّجين منها مقارنة بالمتخرّجين من المرحلة الثانوية؟ وكيف تسهم في التغيير الاجتماعي؟