لم يعترف المجرم بما اقترفت يداه؟ وكيف لضمير سكن إلى استتباب حياته أن يصحو من أجل أمٍّ تريد معرفة مصير أبنائها الذين خطفوا أو غيُّبوا قسراً؟ ولم يرقّ قلب مجرم، ولو ندم، لإبن أو أب يريد أن يؤكد له أحدهم بالدليل مصير أحبّته: أأحياء؟ أم أموات؟ وفي الحالتين أين وكيف ومتى؟.
لقد عطَّل العفو العام الذي أصدرته غالبية القوى التي شاركت في الحرب الأهلية اللبنانية (1975/1990) مسار العدالة التي هي أساس بناء أرضية سليمة لمستقبل أي بلد خاض تجربة الحرب الأهلية المدمّرة. ذلك المسار الذي يفترض الاعتراف ثم إبداء الندم والإدلاء بالمعلومات لاستحقاق الصفح والغفران. لهذا، لا يزال نضال أهالي المفقودين والمخفيين قسراً مستمراً منذ ما يقارب العقود الأربعة لأجل معلومة حاسمة عن مصير أحبتهم، ولا ينجحون إلا بشق الأنفس بالتقدم خطوة خطوة الى مبتغاهم. أما المجرمون والمرتكبون، فها هم يعيشون حياتهم بشكل عادي «وبراءة الأطفال في أعينهم».
هـكذا، وبـالرغـم من الفرح الكبير بصـدور قـانـون المفقودين بعد طول انتظار، بدا لكثيرين، وأنا منهم، أن الشعار الذي رفعته اللجنة وهو «المعرفة مقابل المغفرة»، عبثياً في الحقيقة. فمن يريد مغفرة أهالي المفقودين؟ طالما أن أحداً لا يقترب منهم باتهام أو تحقيق أو طلب مثول أمام العدالة؟ وهل المغفرة إغراء لمن تناسى جرائمه أو ربما برَّرها لنفسه خلال الأربعين سنة الماضية؟ هو عاش وتزوج وروى لأولاده ربما روايته الخاصة عن الحرب. وهي على الأرجح رواية يلعب فيها دور الضحية المعتدى عليها.
المجـرم حصـل على العـفو فلم يعـترف؟ لِمَ يعيد تسليـط الضوء على نفسه؟ وما معنى هذه المغفرة التي ستأتيه من أهالي الضحايا طالما أنه يستفيد من غياب الدليل على جرائمه؟. يبدو أهـالي المخطوفين وكأنهم مجموعة من المثاليين أو السُذَّج المتفائلين بالطبيعة الإنسانية، وفي ذلك ما يشرّفهم، لكن هل فيه ما يفيدهم؟.
لكن، وبتفحص مواد القانون 105، أي قانون المفقودين، بهدوء، والتشاور مع لجنة أهالي المفقودين حول هذه الأسئلة، ظهرت لنا إمكانيات أخرى مضمرة في متن هذا القانون، ويمكننا أن نلخص الفكرة بالعنوان التالي «الاختيار بين العار العلني أو سرية الاعتراف».
فمن المعلوم أن جريمة الخطف مستمرة إذا لم يثبت أنها انتهت وحصلت خلال الحرب أي خلال الفترة التي يشملها العفو العام. كما أن العديد من جرائم الخطف معروفة الجهة المسؤولة عنها كونها تقع جغرافياً تحت سلطة إحدى الميليشيات التي شاركت في أعمال الخطف والخطف المضاد. هي نوع من «سر ذائع»، لذا، وكما في قوانين الجيوش، فإن العناصر لا يحاكمون بل يحاكم المسؤولون عنهم، أي مُصدري الأوامر. لذا، يصبح توجيه الاتهام إلى الجهات السياسية التي كانت مسؤولة عن تلك النقاط التي جرى فيها الخطف، ممكناً وسهلاً الى حد ما، عبر الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً، والتي نص القانون 105 على تشكيلها وأعطاها كل صلاحيات التحقيق. وبذلك يصبح على تلك الجهات أن تجيب، علانية، أمام المحقق، بما يفيد عن مصير المفقودين المتهمة باختطافهم أو إخفائهم، وأن تثبت أنه قد جرت تصفيتهم، مزوّدة الهيئة بمعلومات عن أماكن الدفن، أو أنها قد سلّمتهم إلى جهات ثالثة، يجري التحقق منها. أما إن اختارت تلك الجهات تزويد الهيئة طوعاً بالمعلومات، فإنها ستستفيد من شرط السرية. أي أن هويتها ستبقى طيّ الكتمان. وينطبق الأمر على الأفراد من المرتكبين أو الشهود، لتسهيل الاعتراف وللحصول على المعلومات. وبالمختصر يكون من المجدي تخيير المعنيين بجرائم الخطف بين أمرين: الإدلاء طوعاً بالمعلومات، مقابل الحفاظ على سرية أسمائهم وبياناتهم الشخصية، أو الخضوع للتحقيق، وفي حال ثبوت التهمة، إخضاعهم لمحاكمة يتحملون فيها علانية عار جرائمهم.
ربما، وبهذه الطريقة، قد نصل الى نهاية لهذا الملف المؤلم والمخزي. وهي نهاية لا نجرؤ على نعتها بالسعيدة.