لكن المحطة الأبرز لما يُعتبر «تهميشاً» لطرابلس ونزعاً لمكانتها وصدارتها، إنما هي إنشاءُ الانتدابِ الفرنسي دولةَ لبنان الكبير في العام 1920، وجَعْلُهُ بيروتَ عاصمةً للدولة الوليدة. وحتى اليوم لا يزال الطرابلسيّون يحملون في ذاكرتهم «جرح» ذلك التاريخ وآثاره وتبعاته: شعورهم بأن الدولة والحكومات اللبنانية المتعاقبة، همّشت مدينتهم وأهملتها، مع ريفها العكاري. وهم غالباً ما يعيدون ذلك إلى ما يشبه تمييز و«قصاص» تعرّضت لهما طرابلس لأن تاريخها وتراثها وهويتها جعلتها تميل إلى طلب الانضواء في كيانات وحدوية كبرى «سورية» و«عربية إسلامية»، أكثر من ميلها إلى «الالتحاق» بكيان صغير «هجين» و«مصطنع»، هو لبنان ودولته المستقلة.
شكّلت هذه الصورة والمشاعر الطرابلسية أرضاً خصبة للميول والمواقف السياسية للزعامات التقليدية في المدينة الشمالية. كما أنها لعبت دوراً راجحاً في طبيعة تكوّن الجماعات الأهلية العروبية والإسلاموية الطرابلسيّة، وفي سلوكها ومواقفها «المتصلّبة» سياسياً طوال تاريخ لبنان الحديث. و«التصلّب» السياسي الأهلي، «عروبياً» و«إسلامياً» سمةٌ من سمات طرابلس في زمن السلم والأزمات السياسية اللبنانية، كما في أزمنة الحروب الداخلية والإقليمية، وما يتلوها من حوادث واحتقانات أهلية وطائفية لا تزال تتناسل قوية حتى الآن في لبنان والمنطقة العربية.
ويظهر تميّز تاريخ طرابلس الحديث في عدد من الوقائع والمحطات:
- نشوء «إمارة إسلاميّة» أصوليّة مسلحة فيها بزعامة أمير «حركة التوحيد الإسلامي» الشيخ سعيد شعبان، ما بين العام 1982 والعام 1986. وقد تركت هذه «الإمارة» بصماتها في المجتمع الطرابلسي.
- تكاثر الجمعيات الأهلية والمعاهد الدينيّة الإسلاميّة في المدينة.
- استعمال المخابرات السورية لشراذمَ وسجناء وخلايا من إسلاميين أصوليين أو سلفيين في المدينة، لأغراض متنوعة، محلية وإقليميّة ودوليّة، تخدم السياسات الأمنية السورية في عهد «الوصاية» على لبنان وما بعده: «فتح الإسلام» نموذجٌ بارز في العام 2008.
- الشِّقاق الأهلي والحروب المديدة بين حيّين أهليين بائسين ومتقابلين ومنقسمين طائفياً في طرابلس: باب التبانة السنّي، والأشد فقراً واكتظاظاً في لبنان، وبعل محسن العلوي والفقير أيضاً. وتناسلت الثارات الحربية بين هذين الحيّين على خلفية مجزرة كبرى ارتكبها النظام السوري في باب التبانة في العام 1986.
- الثورة والحرب في سوريا وقتال «حزب الله» الى جانب النظام السوري «العلوي»، ساهما بقوة في تجدُّد الاحتقانات والصدامات الطائفية بين الحيين، وصولاً الى تبادل العمليات الانتحارية بينهما.
من هذه الوقائع - المحطات التي تميّز طرابلس، ومن شعور المدينة المديد بـ«التهميش» و«الغبن» و«الإهمال» في إطار الدولة اللبنانية، تنشأ خصوصية المعضلات والأزمات الداخلية المتجددة فيها. وهي تتخذ أشكالاً ومظاهر وصوراً كثيرة، حسب الظروف المحلية والإقليمية.
لكن أقوى هذه المظاهر والصور جذباً للرأي العام والإعلام المحلي والدولي، هو ما يتعلق بالحوادث المتصلة بشراذم من مجموعات سلفيّة جهادية. لذا شاعت للمدنية صورة إعلامية مضخّمة تعتبرها معقلاً لهذه المجموعات في لبنان.
لا شك في أن طرابلس مدينة «تقليدية» و«محافظة» اجتماعياً، أكثر من المدن الساحلية الإسلامية الأخرى في لبنان، وذلك بقدر ما هي راكدة اقتصادياً وعلى صعيد التنمية وفرص العمل. ففقراؤها المعدمون المكدّسون في أحيائها الأشد فقراً وبؤساً وكثافة سكنية (خصوصاً باب التبانة، المنكوبين، والقبة)، يعتمدون لسدّ الكثير من حاجاتهم الضرورية على نمطٍ من «الإعالة» الواسعة يتّبعه زعماء المدينة من الأثرياء الجدد الذين يقدمون مساعدات للأهالي، لتمتين زعامتهم نفوذهم الأهلي وتوسيع قواعدهم الانتخابية.
فلكلٍ من هؤلاء الزعماء جماعته بين فتوّات الأحياء وزمرهم المسلحة من الفتيان والشبان الغارقين في التذرّر والأمية والبطالة والانحراف والضياع والاحتقان المذهبي والعنف في باب التبانة. وهذا كله يتغذّى من الاحتقانات اللبنانية العامة ويغذّيها، بقدر ما هو متصل عضوياً في هذه الحقبة بالإحتقان المذهبي بين أهالي بعل محسن العلويين وأهالي باب التبانة السنّة. والإحتقان هذا تؤجّجه مشاركة «حزب الله» الشيعي في الحرب السورية وامتداداتها الإقليميّة الواسعة والمعقدة.
ولعل سياسات «حزب الله» في لبنان منذ العام 2005، وفي سوريا منذ العام 2011، هي ما يشكّل معيناً وباعثاً على الاحتقان المذهبي وعلى ظهور مجموعات وأفراد من السلفية الجهادية في طرابلس في المدة الأخيرة، وذلك نكاية بـ«الجهاد» المذهبي للحزب في سوريا.