من هنا، فإن التفجيرين الأخيرين اللذين وقعا في «جبل محسن»، واستهدفا مقهيَي «عمران» و«المجذوب»، حصدا عدداً لا يُحصى بالأرقام من الأرواح، لا سيما أن شباباً من كل طرابلس، وحتى من «باب التبانة»، يقصدونهما.
مقهى «عمران» من أقدم مقاهي «الجبل»، ويقول روّاده إنه يقدّم أطيب النراجيل. وقد ازداد عدد هؤلاء الروّاد بعد المصالحة التي جرت بين «جبل محسن» و«باب التبانة».
هاتان المنطقتان شهدتا اشتباكات متكررة، جعلت من لا يعرفون طرابلس جيداً، يترددون في زيارتها. أما الواقع فهو أنه في عزّ المعارك كانت تستمر الحياة بشكل شبه طبيعي في سائر أنحاء المدينة. أصوات القذائف والرصاص كانت تعلو على أصوات قرقعة النراجيل، ومع ذلك كان الناس يحاولون التغاضي عما يدور حولهم من موت ازدادت بشاعته عندما أصبح اعتيادياً. على سبيل المثال، كان شارع الضم والفرز يتميّز بتواصل الحركة فيه ليلاً ونهاراً. والمنطقة التي كانت حتى أواخر الثمانينيات بساتين مترامية الأطراف، انتشرت، على طولها الممتد من دوّار «السلام» إلى دوّار «النيني» إضافة إلى متفرعاتها، المطاعم والمقاهي كالهشيم في النار. لكن هذه النقاط ليست مقاصد لجميع الطرابلسيين بسبب أسعارها المرتفعة من جهة، وتناسخ ديكورات العديد منها من جهة أخرى. وهذا الديكور لم يهتم به كثيراً كشك «أبو مشهور» المتمركز إلى جانب دوّار «السلام» باتجاه بيروت. منه، يتناول أهالي المدينة كوب الإسبرسّو أو النسكافيه بأسعار بخسة، قبل الانطلاق إلى أعمالهم خارج المدينة.
مقاهي ومطاعم الضم والفرز أخذت الوهج من شارع طريق الميناء، أو ما يصطلح على تسميته الشباب الطرابلسيون «شارع الكزدورة». التسعينيات والسنوات الأولى التي تلت عام ألفين شكّلت «العصر الذهبي» لشارع الكزدورة. وما إن ينتهي الطلاب من دراستهم حتى يقصدوا هذه المقاهي. يمتزجون في بعضها مع كبار السن، ويستأثرون ببعضها الآخر، كما يعتمدون بعضها الهادئ أماكن للدرس.
باتجاه الميناء التي تُعدُّ خارج طرابلس، على الرغم من كونها ضمن اتحاد بلديات الفيحاء، يزيد البحر من بلادة السارحين فيه. ومقاهي الصيادين تعبق برائحة تعبهم وأخبارهم التي لا تنتهي. يسردون القصص عن بطولاتهم الوهمية. يعرفون أن المنصت قد لا يصدّقهم ولكنه يستمتع بطريقة سردهم المشوّقة، وبعيونهم التي تزيد بشرتهم السمراء من بروز لمعانها.
في أزقة الميناء القديمة الضيّقة، حيث منع دخول السيارات، شارع إسمه «مينو». الصخب كان يملأه حين كان عدد الملاهي الليلية فيه نحو 17 ملهى، إضافة إلى 6 مطاعم تقدّم الكحول. أما اليوم فانخفض العدد إلى ستة ملاهٍ ومطعم واحد يقدّم الكحول، وذلك بعدما أُغلق بعضها أبوابه إن كان لأسباب شخصية أو اقتصادية، وإن كان بسبب سياسة «تطفيش» اعتمدت في فترة معيّنة.
الميناء، رغم كل شيء، حافظت على روحها الشعبية. وهي نفسها الروح التي تشم رائحتها من رئتي طرابلس، أي الأسواق الداخلية وشارع «عزمي». فعلى إشارة «عزمي» مقهى «البينكي» لا يزال يستقبل الروّاد أنفسهم، من صحافيين، فنانين، حزبيين سابقين وحاليين، لم يغيّروا عادتهم بقضاء فترة قبل الظهر فيه منذ ثلاثين عاماً. بعضهم اكتسح الشيب رأسه، وبعضهم حرص على أن يصبغ شعره بانتظام. وبالنسبة إليهم، لا بديل عن الصحف الورقية مع فنجان القهوة التركية، التي تزوّدهم بالمواد الساخنة للنقاشات السياسية.
تجاور «البينكي» منطقة «التل» أو وسط البلد، حيث خواص هذه المدينة المتعبة من القهر. منطقة أعطت إسمها إلى أحد مقاهيها الشهيرة: «التل العليا». كذلك، فهي تضم مقهى «فهيم» الذي يقال إنه ثاني أقدم مقهى في الشرق الأوسط. وفيه، ضحكات العجائز المتحلّقين حول طاولات الورق تنبض حيوية، ولا مبالاة بالحياة في الخارج.
ومن «فهيم» إلى «موسى» في «باب الرمل»، ذلك المقهى الذي لا ينام، والذي يتحوّل في شهر رمضان تحديداً إلى واحد من أجمل أماكن السهر حتى طلوع الفجر، حيث تعبق رائحة الكعكة الطرابلسية الألذ في وقت السحور.