«أبو فاعور».. ريادي من التبانة يكافح الذلّ

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 01 آذار 15 7 دقائق للقراءة
«أبو فاعور».. ريادي من التبانة يكافح الذلّ
لا يملك وائل اليوم كثيراً من الوقت الحرّ. ينتهي يومه عند العاشرة ليلاً، الآحاد ليست استثناءً عن هذه القاعدة. في الليل، أفكاره -بعكس عينيه- لا تنام. في الحقيقة، وائل لم يملك يوماً الكثير من الوقت الحرّ. يعبر عن هاجسه بصيغة سلبية. يرفض السائد «لا أريد أن أكون مثلهم». يتأمل باب التبانة، اخوته، جيرانه، رفاق المدرسة ولاحقاً رفاق الحارة والورشة. يحبّهم، يشعر أنّه منهم، لكن لا يريد أن يشبههم. لم يتوقّع وائل أن يجد النموذج في منطقته، الى أن تعرف على أحد قادة المحاور القتالية. تفصيل آخر لأحداث كثيفة توالدت وخيارات ساقها عن عمرٍ لم يناهز 23 سنة.
هو في الاصل وائل الجندي الملقّب بـ«أبو فاعور». لا علاقة للّقب بفورة الاحاديث المتداولة مؤخراً حول وزير الصحة. يقول أنّ هذا لقبه منذ ست سنوات، خلال عمله بالنجارة في مكتب لوليد جنبلاط في عاليه، حين ناداه أحدهم بـ«أبو فاعور» تيمّناً باسمه الاول. انتقل اللقب الى رفاق الحي الذين كتبوا اسمه هذا بالخط العريض على أحد جدران شارع سوريا التي لم يطمسها بعد الدهان الابيض والازرق الطارىء على الشارع بعد الخطة الامنية الاخيرة.
بدأت علاقته بالخشب منذ الطفولة. في تردده الى مدرسته في الزاهرية مشياً، راقب كيف يعملون في تلك المحلّة المزدحمة بالمناشر. يقف ويتفرّج، هكذا يومياً. كانت تلك الدقائق المتنفس الوحيد نحو الخارج «كانت أمّي تمنعني من النزول الى الشارع»، الى أن أذعن أهله سامحين له بمساعدة «المعلّم» في الاعطال. خلال الصيف الاول، كان يجني 10,000 ليرة لبنانية أسبوعيا. فرحَ ابن الـ 12 عاماً بهذا الراتب ولم يتبرّم من مهامه. يعبىء الحطب في الشوالات ويكنس الأرض، لكن عينيه بقيتا مصوبتين على ايدي العاملين «خلال ثلاثة أشهر تعلّمت نصف المصلحة».
رغم تميّزه، ظلّ يعمل بدوام جزئي. يمكن اعتبار حاله مناقضاً لغالبية أطفال التبانة الذين يتسربون من المدارس للعمل في الورش أو عتالين في الحوانيت. كان يدّخر راتبه لغاية لا يدركها تماماً. أهله يتعففون عن الاستعانة بهذا المورد رغم ضيق ذات اليد لعائلة تتألف من ربة منزل وأب يعمل بسيارة أجرة ليعيل أبناءه الخمسة.
عرف الحبّ باكراً أيضاً. يصف علاقاته العابرة مع الجنس الآخر بما يحدث مع «كل الشباب في مثل سنّي»، الى أن التقى فتاة أحبها بإصرار في بيت خالته. جهد أهلها لمنع هذه العلاقة التي لم تطل قبل عودتهم الى الكويت «لم يأخذوني على محمل الجد. كنت في السابعة عشرة آنذاك». هذا الموقف كان تحدياً آخر ليصبح «انساناً له أهمية» على حد تعبيره، وقطع عهداً لها ولنفسه «سنتزوج لو بقي يوم واحد في حياتي». تزامنت خيبته مع زواج أخيه الّذي أضنى أبويه في مساعدته على استئجار بيت وفرشه «أصبحت مصراً على استقلاليتي المادية».
في صيف 2011، اتشحت التبانة بالسواد وتصاعدت تلاوات القرآن حزناً على وفاة «خضر المصري»، أحد القادة المحليين الذي قضى متأثراً بجروحه اثر حادث أمني «حين أبلغوني بوفاته كنت أخطط يافطات تدعو له بالشفاء. طلبت من الخطاط استبدالها برثاء وكان ذلك آخر ما أعيه قبل أن يغمى علي»، مضيفاً أنّ «خضر المصري» قائد بكل معنى الكلمة «بمجرّد النظر الينا يعرف ما بداخلنا. كان ذكياً وكريماً. يعطي نقوده للشحاذين والفقراء دون أن يترك شيئاً في جيبه».
بعد البكالوريا، لم يجتز امتحان الدخول للجامعة اللبنانية فقصد الجامعة اللبنانية الدولية لدراسة هندسة الديكور. ولهذه الغاية، أنفق كلّ ماله. اقتربت السنة الثانية دون أن يجمع وائل القسط المطلوب. أطلعه رفيقه على مؤسسة جديدة تعطي منحاً لشباب التبانة وبعل محسن. كان هذا التعريف السريع والمقتضب حافزاً ليتأكد من صحة الخبر. وبالفعل، بعد مثوله أمام لجنة فاحصة صار وائل من أقدم متطوّعي مؤسسة «روّاد التنمية»، وهي مؤسسة اقليمية غير ربحية تعمل مع المجتمعات الساعية للتغلب على التهميش في الاردن ومصر وفلسطين ومؤخراً لبنان، من خلال التعليم والبرامج الشبابية التطوعية. وعلى عكس غالبية الجمعيات والمؤسسات الفاعلة ضمن طرابلس، تلتزم «رواد التنمية» الحياد السياسي والعمل المدني والعلمانية كسبيل للانفتاح على الجهات المختلفة في المجتمع، وصنع نواة شبابية لتغيير للوضع القائم. ترتكز على الدعم المادي يقدمه رياديون في قطاع الأعمال آمنوا بدعم روح المبادرة للنهوض بالمجتمع ولدحض عدم التكافؤ الإجتماعي في العالم العربي. وكشرط اجباري للحوز على المنحة، تطوع وائل- ولا يزل- في تنفيذ احد البرامج التابعة لروّاد من خلال ساعات الزامية كل اسبوع، الى جانب أكثر من 100 متطوع من بعل محسن والتبانة بالاضافة لأنشطة للتنوير الثقافي وتطوير المهارات العملية تنفّذ غالبيتها في مبنى واقع على شارع سوريا الذي يربط بين المنطقتين.
وائل الذي وسّع دائرته الاجتماعية في كل مكان، تعرّف الى مجموعة أخرى من المحلّة. يستمهل نفسه لايجاد الوصف الوافي، فيكتفي بالقول أنها مجموعة شباب عاديين، يلتقون بشيخ سلفي من التبانة عاد لتوه من أوستراليا. هذا الأخير خوّل «أبو فاعور» لرفع الأذان في مسجد عبد الله بن مسعود الملاصق لبيته. أحبّ المجموعة. ترافقوا في رحلة للعمرة جمعته بقائد أحد المحاور القتالية. هذا الأخير هو أخ «خضر» الذي فجع وائل لرحيله. في تلك المرحلة، كان الاستقرار مجرّد هدنة بين معركتين. جذبته الاحداث، خصوصاً أن القائد الجديد أحبّه وميزه «كان رفاقي يتغامزون حين أركب وراءه على الموتير. وثق بي بسرعة، جعلني أتكفل نجارة شقته بالكامل. قال لي: اصنع بها ما تشاء».
ذروة انخراطه يذكرها جيّداً، يتحدّث عن تلك المعركة ما قبل الاخيرة، وهو يعبث بكرتونة صغيرة ينتفها بين يديه. نزل وائل الى الميدان «تمترست مع الشباب في موقع مدشّم» معه بارودة اشتراها من مصروفه الخاص. يتابع «كان الهدوء مخيماً، الى أن انفجرت على الضفة الاخرى عبوة ناسفة قيل أنها حفرت فجوة. بدأ الجبل يطلق الرصاص عشوائياً». ندم وائل لأنه لم يستجب لتوسلات أهله الذين لم ينجحوا في ردعه عن النزول للشارع. «كذبة» يقولها وائل ويكررها «كل القتالات كانت كذبة. لا أعلم لماذا نزلت الى المعركة لكن ما أوقنه تماماً هو ادراكي المفاجىء أن كل القتال الدائر حولي كان كذبة. أنني كدت أموت بأبخس الاثمان».
كلّ تلك التقلبات لم تقطع توق وائل لتطوير عمله. بدأ بتعهّد أعمال نجارة خاصة، ينجزها في منشرة يستأجرها حسب الحاجة. أدرك أن احتكاكه بسوق العمل قيمة مضافة لزبائنه، فأنشأ مجموعة تضمّ الى جانبه الكهربجي ومعلم الالومنيوم والسنكري، يتعهدون شققاً كاملة بسعر أوفر ووقت أقل. ثم ما لبث أن اقترح على رفيقه أن يتشاركان بالمتاجرة في العمار، ليشتريا الاراضي ويبنيا العقارات «على دفتري الآن 25 قطعة أرض مسجلة. أدرس الكلفة، المربح، نسبة الاستثمار، أستشير السماسرة». أما في الوقت الراهن، عمال ورشته الخاصة يصنعون كل شيء بأيديهم لكنه يحرص على تركيب القطع بنفسه أو ما سميه بال finishing أمام الزبون. استلم شققاً لمدير الجامعة وأساتذته، ويصف اليوم تجربته في «روّاد» بـ«هدية من السماء. بعض التدريبات وجلسات النصح دعمت لدي المبادرة لتوسيع مشاريعي ولكن بخطى مدروسة».
يتحدّث عن مشاريعه المنظورة بعينين لامعتين. تنتظر ليهدأ هذا التوهج فيشتدّ ليسأل متبسّماً «متى كان عيد المولد النبوي؟». يربط هذا التاريخ بيوم خطوبته على حبيبته. وائل طريّ العود فاجأ، بعد ست سنوات، أهلها الذين زاروا لبنان بـ«الاستاذ وائل» حسبما يناديه معارفه في كل مكان «ادركوا أنني غير قاصر عن تأسيس مستقبل. قالت لي أمها: لن أغادر لبنان قبل أن ترتديا المحابس».
يتأمّل وائل قليلاً قبل أن يردف «أصر على دراستي الجامعية لأنها بالدرجة الاولى أعطتني دعماً معنوياً. حين تكون خريج جامعة، نظرة المجتمع اليك تختلف. لدى مرورنا بحاجز للجيش، عرّف عني الجالس بجواري بـ«المهندس وائل»، وذلك أبعد عني التهمة أنني من أبناء التبانة».
ورغم كلّ شيء، وربّما، بسبب كلّ شيء، انتقلت اسرة وائل مؤخراً للسكن في الميناء، «أهلي يريدون الاطمئنان لناحيتي». لكن وائل لا يزل يتردد كل يوم الى منطقته «أعود الى الميناء فقط لأنام».
أكثر ما تزعجه أعين الزبائن المرتابة لسحنته الطفولية وعوده الرقيق. يسألونه عما اذا كان هو فعلاً صاحب الورشة الذي حدّثوه على الهاتف فيسارع بتقديم «بورتفوليو» لأعماله ويرجوهم بعدم الحكم على مظهره «مجتمعنا لا يثق بالشباب. لكنّني أتمنى من كل الشباب أن يجربوا القسوة ولا يعتمدوا على أهاليهم».
وباب التبانة هي مكوّن من مجتمع أكبر يفرط في تدليل أبنائه حسب وائل، الذي يستشف خصوصية واضحة لهذه المنطقة «التبانة اعتادت على الذل وأهلها راضون بذلك. لو يخرج الشباب من دائرتهم ليعملوا بأيديهم لعرفوا قيمة أنفسهم ولصار الوضع غير ما هو عليه الآن».
A+
A-
share
آذار 2015
أنظر أيضا
01 آذار 2015
01 آذار 2015
أحدث فيديو
الأكثر مشاهدة هذا الشهر
10 كانون الأول 2024 بقلم زهراء عياد، صحافية
10 كانون الأول 2024
بقلم زهراء عياد، صحافية
07 كانون الأول 2024 بقلم نايا فجلون، صحافية
07 كانون الأول 2024
بقلم نايا فجلون، صحافية
تحميل المزيد