ولأننا نحاول تسليط الضوء على أهمية هذا المجتمع، سأبدأ العرض بالجمعيات التي أشيد بعملها، كونها تعرف ماذا تريد، وتعمل على ما تريد بشكل واضح، وتستهدف الفئة المنويّ العمل معها بشكل صحيح، وترتّب أمورها بشكل يتناسب مع الجميع، لتحقق أهدافاً سريعة وتغيّراً فعليّاً، كالنشاطات التي تقوم بها جمعية «روّاد التنمية» -على سبيل المثال لا الحصر- والتي تستهدف سكان منطقتي النزاع، التبانة وجبل محسن، وتقدم لهم التدريبات اللازمة والمساعدات ودورات التعليم وغيرها من الأنشطة التي تساعدهم على الابتعاد عن أجواء الشحن الطائفي والعقائدي الذي يبسط رُحاه في المنطقة. وهنا لا يمكننا أن ننسى ما قدمته «حملة طرابلس خالية من السلاح»، التي طرحت رؤيا تعكس وجه المدينة الذي اعتاده أهلها، خالية من السلاح الذي أتعبها وأتعب ناسها، وحمّلها ما لا تحتمل.
يصوّر أحد الناشطين عمل إحدى الجمعيات بـ«البازاري»، لا سيما أن مدير هذه الجمعية استطاع أن يقدّم فرص عمل لعائلته فيها، وهو يعمل بشكل دؤوب على توظيف أكبر عدد من الاشخاص ذوي المنفعة الشخصية. كما أن عمل الجمعية يقتصر على النشاطات غير الواضحة، والتي لا تقدم لأهالي المدينة أي منفعة، لا على الصعيد الإنمائي، ولا على الصعيد الاجتماعي، ولا حتى على الصعيد الترفيهي.
وقد أجمع بعض الناشطين على أن سبب المشكلات التي تواجهها بعض الجمعيات، هي سوء الإدارة، وكثرة التمويل، لا سيما أن مدينة طرابلس ذات أرض خصبة، وأن المموّلين يغدقون المال بشراهة، إلا أن هذا التمويل يذهب في أنبوب صرف غير ذاك الذي يدير المنفعة على أهالي المنطقة، فتقتصر النشاطات على الفوضى، والمحسوبيّات، وتضييع الوقت.
إن طرابلس، التي تضم مناطق يعيش سكانها تحت خط الفقر، هي مدينة واضحة المعالم والحاجات. فأبناؤها، الذين يشتهرون بامتلاكهم حرف الأجداد، من صناعة الصابون إلى القش والنحاس والصوف والمأكولات الشرقية والخياطة والنسيج، يحتاجون إلى فرص عمل وأسواق لتصريف بضاعتهم، تلك البضاعة التي يصيبها الكساد في جميع المواسم، خصوصاً أن القتال في المنطقة فصلها عن محيطها، فسكن الخوف قلوب سكان المدن المجاورة، الذين كانوا يقصدونها لشراء حاجاتهم، حيث تقدم بضاعتها بأسعار زهيدة. فهي، كما عرفت دوماً، «بيّ الفقير».
وبحسب بعض الاحصاءات غير الرسمية، فإن معدلات البطالة في طرابلس مرتفعة بشكل كبير، وهي نوعان: موسميّة وطبيعيّة. وبالإضافة إلى البطالة، تتفشّى ظاهرة «التسرّب المدرسي»، لا سيما في الأحياء الشعبية، فارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة، يدفعان بالعديد من الأسر إلى إبعاد أطفالهم عن المدارس وجعلهم عنصراً منتجاً بدل أن يكونوا عنصراً يحتاج إلى مصاريف ليتعلّم، في محاولة منهم لتأمين أقل متطلبات الحياة.
مما لا شك فيه أن طرابلس لا تحتاج إلى ماراتون يقصد منه الإنماء، ولا إلى ورشة عمل لإدارة المدخول المالي الذي غالباً لا يتوفر منه إلاّ القليل بعد أن تأكل منه الديون المتراكمة على الفرد، بل إن هذه المدينة تحتاج إلى إنماء عادل يغطي غياب البلدية التي يقتصر عملها على فتح مجاري الصرف الصحي في موسم الشتاء، وتمنع إعلاناً هنا، وتفرض رأياً هناك.
إن طرابلس تحتاج إلى حياة، حياة جديدة، تعيدها إلى صخبها المعهود. تحتاج إلى جمعيات تجيد توظيف خبرات أبنائها الذين هبّوا إلى ترميمها بعد كل تفجير إرهابي استهدفها...
طرابلس تحتاج إلى «الحُبّ».