إعدام نهر إسمه «أبو علي»؟!

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 01 آذار 15 4 دقائق للقراءة
إعدام نهر إسمه  «أبو علي»؟!
عندما سيطر السلطان المملوكي قلاوون على طرابلس، وحرّرها من الفرنجة في العام 1289، أمر بهدم هذه المدينة التي سبق أن أقامها الفينيقيون نحو الألف الثالث قبل الميلاد على شاطىء البحر كعاصمة للمدن الفينيقية: صيدا وصور وأرواد، وطلب إعادة بنائها في الداخل عند ضفتي نهر «أبي علي» على بعد نحو ثلاثة كيلومترات من الشاطىء، ليؤمّن حمايتها من الغزوات البحرية.
ونهر «أبو علي» هو في الواقع نهر قاديشا الذي ينبع من هضاب جبال الأرز، ويكتسب إسمه من وادي القديسين، أما لقبه الجديد فيكتسبه ما ان يدخل المدينة وصولاً إلى مصبه عند البحر، وربما نال هذا اللقب من إسم أحد قادة بني عمّار الذين حكموا طرابلس في أواخر القرن العاشر.
وقد راعى المماليك في بناء طرابلس التنظيمات التي سبق أن اعتمدوها في تشييد القاهرة، فعلى امتداد ضفتي النهر أقاموا الأسواق المتخصّصة، وراعوا في ذلك عدم اختلاط البضائع والسلع، كسوق الصاغة أو الذهب، وأسواق العطّارين والنحّاسين والفحّامين واللّحامين، والأسواق الخاصة بالنجارة وبيع الملابس والمفروشات المنزلية والأحذية (الكندرجيّة).. ولا تزال ملامح بعضها قائمة إلى اليوم.
وتطلّ على هذه الأسواق مبانٍ متعددة منها المساجد، وإلى جوارها أسبلة المياه والتكايا والمدارس التي يتم فيها تدريس العلوم الدينية واللغة والحساب، وعلى مقربة منها الحمامات الشعبية والخانات لإيواء النزلاء ودوابهم، إلى ما هنالك من منشآت وبنى تحتية.
وإذا كانت هذه الأسواق قد أقيمت في خط شبه مستقيم، فإن الأبنية والحارات السكنية التي تم تشييدها خلفها كانت طرقاتها عبارة عن «زواريب ضيقة» دون المتر أو المترين تقريباً، وهي منحنية للحؤول دون تمكّن الحملات العسكرية من الدخول إليها، في حين كانت أبواب المنازل غير متقابلة لمنع الإنكشاف أمام أعيُن الجيران، كما كانت هذه الأبواب منخفضة لمنع الجنود من الدخول عبرها بأحصنتهم ودوابهم.
وطرابلس التي كانت تعتبر المدينة المملوكية الثانية بعد القاهرة، تم تحصينها بسبعة أبواب تغلق عند المغيب، ويعاد فتحها بُعيد الفجر، وكانت الأبنية متجاورة ولا تعلو أكثر من طبقة أو طبقتين، والأسواق مسقوفة بألواح خشبية، وكان بالإمكان الإنتقال من أول المدينة إلى آخرها عن طريق الأسطُح العليا.
وقد استفاد الطرابلسيون من نهر «أبو علي» لتأمين مياه الشرب، ولغسل أغراضهم، ولتحريك دواليب الطواحين الحجرية. ونشأ على ضفتي النهر المجتمع الطرابلسي في مراحل تكوينه الأولى، واعتبر السوق ذكورياً بامتياز، أما الحيّز المنزلي فكان نسائياً بامتياز أيضاً، وانسحب ذلك على المقاهي الشعبية التي أقيمت عند زوايا بعض الأسواق والحارات، واقتصر زبائنها على الذكور من كهول وشبان، وكان مشهداً مستغرباً عندما تقصد إحدى النساء المقهى لتسأل عن زوجها أو أخيها فتقف خارجاً والمنديل يغطي كامل وجهها، وتطلب من أحد المارة أن يسأل عن فلان في الداخل ويستدعيه إلى الخارج. وكم كان الرجل يشعر بالإحراج أمام روّاد المقهى، لأن الحديث مع النساء في الطريق غير مستحب!
أما الحمّامات الشعبية فكان لها دوام آخر، حيث خصّصت فترة الصباح للنساء، وفترة بعد الظهر والمساء للرجال والذكور من الأطفال، وتمت مراعاة ذلك التقسيم عند قيام دور السينما والمسارح مع بداية القرن العشرين، حيث تم تخصيص أماكن للعائلات في الصالات بعيداً عن أعين الذكور.
ولطالما شكّل نهر «أبو علي» مكاناً لأهل المدينة كي يروّحوا عن أنفسهم فيقصدوا أماكن معينة مع عائلاتهم، سواء «المرجة» عند نقطة دخول النهر إلى المدينة، أم منطقة برج رأس النهر عند مصبّه، لتمضية أيام العطلة والأعياد و«سيران» شهر رمضان، وهم يحضرون معهم مأكلهم ومشربهم و«أراكيلهم»، ويقيمون حفلات الشواء والغناء.
ويبدو أن «أبو علي» كان يتمرد أحياناً على هذا الواقع، ويعبّر عن غضبه بـ«طوفة» (فيضان) من وقت إلى آخر، وربما مرة كلّ عشر سنوات، كان آخرها في نهاية العام 1955 بعد ليلة ماطرة اجتاحت المياه الغزيرة الجسور بعدما سدّت الأتربة والوحول أقنية تصريف المياه، وتدفقت السيول جارفة الأسواق والأبنية، ونجم عن ذلك سقوط أكثر من 120 ضحية، وتهدُّم 60 منزلاً و500 دكان.
في مطلع ستينات القرن الماضي، وفي أعقاب أحداث العام 1958، عمدت الدولة إلى تنفيذ ما سمِّي بـ«مشروع نهر أبو علي» الذي قضى بشق طريق على طول مجرى النهر بعرض 60 متراً. وترافق ذلك مع هدم مساحات واسعة من الأبنية القائمة عند تلّتي أبي سمراء والقبّة المشرفتن على النهر، وتشويه المنظر الخلاّب لتدرج هذه الأبنية صعوداً من ضفة النهر إلى أعلى التلّتين، وكذلك إزالة أسواق بكاملها في حارات بعيدة عن مجرى النهر كسوق النحّاسين، وقيل يومها إن البعض استغل «الطوفة» لشقّ الطرقات ومنع أي عصيان في الحارات الشعبية بالرغم من تهديم واندثار العشرات من الآثار والمواقع التراثية التي تمتاز بها المدينة القديمة.
وما زاد الطين بلّة عملية التشويه التي لحقت بالمنطقة مع تنفيذ ما سمّي بمشروع «الإرث الثقافي» الذي قضى من خلال أعماله الإنشائية على المجتمع الإنساني الذي قام عند ضفتَيْ النهر منذ نشأة المدينة إلى اليوم، وأغرق الحيّز الجغرافي للنهر بالإشكالات في محاولة لإعدامه وتحويله إلى مجرد قناة مغلقة مسقوفة. والمؤلم في هذا المشروع ما يشير إلى أن من ضروريات سقف النهر دوافع جماليّة؟!



“«أبو علي» كان يتمرد أحياناً على الواقع، ويعبّر عن غضبه بـ«طوفة» (فيضان) من وقت إلى آخر، وربما مرة كلّ عشر سنوات، كان آخرها في نهاية العام 5591 بعد ليلة ماطرة اجتاحت المياه الغزيرة الجسور بعدما سدّت الأتربة والوحول أقنية تصريف المياه”
A+
A-
share
آذار 2015
أنظر أيضا
01 آذار 2015
01 آذار 2015
أحدث فيديو
الأكثر مشاهدة هذا الشهر
10 كانون الأول 2024 بقلم زهراء عياد، صحافية
10 كانون الأول 2024
بقلم زهراء عياد، صحافية
07 كانون الأول 2024 بقلم نايا فجلون، صحافية
07 كانون الأول 2024
بقلم نايا فجلون، صحافية
تحميل المزيد