ولقد تمدّد هذا الظلم إلى وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة وحتى الإلكترونية التي تتعاطى مع طرابلس من الزاوية الأمنية فقط، وتساهم مجتمعة، عن قصد أو عن غير قصد، في رفع جدار العزل حولها.
هذا التعاطي الاعلامي مع المدينة بدأ يفقدها مقوّماتها الاقتصادية والسياحية والتجارية، ويضع مؤسساتها الحيوية على حافة الانهيار، وذلك بفعل التأثير السلبي الذي يعكسه على اللبنانيين عموماً وعلى أبناء الأقضية الشمالية خصوصاً، والذين بدأوا ينظرون إليها من زاوية أنها مدينة للخوف، ومدينة غير قابلة للحياة.
وهذا الواقع دفع كل هؤلاء إلى الإحجام عن زيارتها أو التسوّق من أسواقها التاريخية والتراثية، في حين لا يختلف اثنان على أن الفيحاء لا يمكن أن تعيش وتنهض وتنمو إلّا بما يعرف بـ«الإجر الغريبة» التي غابت عنها خلال السنوات الماضية.
فطلقة نار، أو رمي قنبلة يدوية، أو إشكال فردي في أي حي من أحيائها، كلها كفيلة بتوجيه أنظار وسائل الإعلام إليها، فتسارع الى الحديث عن السلاح والارهاب. بينما خروق أمنية مماثلة في مناطق أخرى لا تعيرها هذه الوسائل أي اهتمام.
لم يعد خافياً أن الفقر المنتشر أفقياً في طرابلس دفع ببعض التيارات السياسية والدينية، وأصحاب الأجندات المشبوهة، إلى استغلال الكثير من شبانها، وإغرائهم بالمال والسلاح في ظرف سياسي معين وفي غفلة من الأمن، ما جعل المدينة ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات محلياً وإقليمياً بدماء فقرائها على مدار 20 جولة.
لكن ذلك لا يعني أن طرابلس باتت مدينة للحرب فقط بنظر الإعلام، وأنها باتت مقصداً لكل ساعٍ باتجاه السبق الصحفي أو الإثارة أو الشهرة، فقد كانت لها، خلال السنوات الأمنية العجاف، نشاطات محلية ودولية فنياً وثقافياً ورياضياً، كانت تدل على وعي أهلها ووحدتهم ضمن التنوّع، وتعايشهم مع بعضهم البعض، وتمسكهم بالسلم الأهلي، ورفضهم التوترات، لكن ذلك كله لم يكن له حظ في الإضاءة عليه، فتحركٌ بسيط أو إطلاق نار ابتهاجاً في المدينة، كانا يستدعيان انتقال سيارات النقل المباشر إليها، بينما المهرجانات الصيفية، والنشاطات من ماراتون وبايكاتون وريسيتالات ومعارض لا تحظى سوى بثوان معدودة في نشرات الأخبار.
ولم يكتف الإعلام بذلك، بل إن بعض محطات التلفزة كانت وما زالت تتجاهل الكثير من المفكرين وأصحاب الرأي وممثلي المجتمع المدني من أبناء طرابلس، لتستضيف في برامجها بعض المدّعين من الموتورين الذين يمعنون في الإساءة إلى المدينة والى أهلها وإظهارهم بأنهم طائفة من المتطرفين المنعزلين الرافضين للآخر.
كل هذا الظلم الإعلامي الذي تعرضت له عاصمة الشمال لم تتمكن من التصدي له من أجل تغيير الصورة النمطية عنها. فهي تتمتع بحيوية هائلة عبر هيئاتها المختلفة، ورغم إمكاناتها الضعيفة، تتفوق بنشاطاتها على كثير من الهيئات في مناطق لبنانية محظية، لكن تجاهل الإعلام عن إظهارها يجعلها تنحصر بين المشاركين فيها فقط.
لذلك يصح القول أن طرابلس مدينة مغيّبة إعلامياً، إلاّ من إشكالاتها الأمنية، وما يضاعف من هذا الغياب أن أكثرية مراسلي وسائل الإعلام ومندوبيها في المدينة يعملون بتوجيهات إداراتهم المركزية التي تولي الخبر الأمني، مهما كان نوعه أو حجمه، الأفضلية، فيما هم يفتقدون إلى أي تأثير على هذه الإدارات، ويفتقرون إلى المبادرات الإيجابية عبر الإضاءة على بعض الصور الحضارية في طرابلس لا سيما المدينة المملوكية، والأسواق التراثية، والعادات والتقاليد التي ما تزال تنفرد بها.
والواقع أن الصحف العديدة الصادرة في المدينة، سواء كانت سياسية أم غير سياسية، هي في معظمها تعيش على المال السياسي، ما يجعلها مرتهنة للجهات التي تموّلها، كما أن انعدام الرؤى التطويرية لدى أكثرية إدارات هذه الصحف يجعلانها محلية بامتياز ومحدودة التأثير.
إن إنصاف طرابلس، وتغيير سلوك وسائل الإعلام تجاهها، يحتاجان إلى «لوبي إعلامي» ضاغط يستطيع فرض حضورها الإيجابي، كون الاعلام جزءاً لا يتجزأ من التنمية الشاملة التي تحتاجها هذه المدينة.
إن قليلاً من الجهد الإيجابي والأفكار الخلاّقة، والتضامن المدني والإعلامي في طرابلس كفيل بوضع الأسس لتعاطٍ جديد معها من قبل وسائل الإعلام، فالمدينة التي لا تدافع عن نفسها لن تجد من يدافع عنها، علماً أن كثيراً من المتابعين يؤكدون أنه لكي تنصف طرابلس إعلامياً عليها أن تعود عشرين عاماً إلى الوراء، ففي تلك الحقبة كانت فيها أربع محطات تلفزيونية تضاهي كل منها المحطات اللبنانية إلى حدود المنافسة، وكانت لها حريتها الإعلامية واستقلاليتها، وكانت عند كل إساءة تتعرض لها ترد الصاع صاعين عبر وسائلها الإعلامية، لكن هذه المحطات ما لبثت أن أقفلت بفعل غياب الإمكانات وانعدام الدعم، ولم تشهد المدينة بعد ذلك أي محاولة لتعزيزها إعلامياً بالرغم من كل الإمكانات المالية الضخمة الموجودة فيها.