معالم طرابلس الدينية
«خطاب الحجر» الأكثرُ رسوخاً والأعظمُ إفصاحاً!

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 01 آذار 15 3 دقائق للقراءة
معالم طرابلس الدينية <br/> «خطاب الحجر» الأكثرُ رسوخاً والأعظمُ إفصاحاً!
© جامع العويصات، الصورة من الكتاب الذي أصدرته جامعة البلمند في العام 2011 بعنوان "طرابلس، مدينة كل العصور".
أن يتحاور إثنان من البشر، فلغةُ التواصلُ هي الكلام، وما قد يقومُ مقام الكلام! وأن يُحاورُ الحجرُ الحجرَ، وهما قاب قوسين أو أدنى من بعضهما بعضاً، فنحنُ بإزاء «خطاب الحجر» ، وما أدراك ما «خطابُ الحجر!».
فإهرامات الفراعنة، على رُغم سكونها الدهري المطبق، تُخاطبنا عَبْرَ مسيرةٍ حضارية، ترقى إلى آلاف السنين، ولسوف يبقى خطابها قائماً إلى يومِ الساعة!... من هذا المنطلق، وعلى قاعدته، نتعاطى «خطاب الحجر» الذي تتلوهُ على مسامعنا مساجدُ طرابلس وكنائسُها الضاربةُ عمقاً في تاريخ المدينة.
«خطاب الحجر» في طرابلس، ما هو إلا ترجمةٌ أمينةٌ لخطاب الحياة اليومية الأنسيّ، خطاب العيش المشترك، لا بل العيش الواحد!
فأنت في مدينةٍ تُزنِّرها المساجد والكنائس، من أي الجهاتِ أتيتَها. بل تتربع المعالم الدينية في أسواقها الداخلية العتيقة، مملوكيةً وعثمانية، ولنجدُنا أمام «مُتحفٍ دينيّ»، قل نظيرُه، يُذكرُ فيه اسمُ الله ويُسبَّحُ بحمده!
ولا يمكن تعاطي الخطاب المزدوج، من لدن الحجر والبشر، إلا عَبْرَ الدور الذي أدّاهُ سحابة حقبٍ زمنيةٍ مُتعاقبة.
ولقد كان لعددٍ من معالم طرابلس الدينية، لا سيما كنائسها، أن تُصادِرَ بعضاً من المجال العام. فها هو «شارع المطران» ، يتخذ اسمه من مطرانية الموارنة «قلاّية الصليب» القائمة في هذا الشارع. وها هو «شارع الراهبات»، يستمد تسميتهُ من مدرسة الراهبات التي كانت تقبع في تلك المحلة. وها هو الشارع المسيحي الأبرز، «شارع الكنائس»، يستقي اسمه من الكنائس التي تتراصف، إلى بعضها بعضاً، وهي تعود إلى مختلفِ الطوائف المسيحية (الموارنة والأرثوذكس والكاثوليك واللاتين..). وها هي «حارة السيِّدة»، يلتصق اسمُها بالكنيسة التي بناها القائد الصليبي بوهيموند السابع في العام 1286م.
وتجسيداً لهذا الواقع الديني، منظوراً إليه عَبْرَ خطابي الحجر والبشر، كان للوزير الأديب رشيد درباس أن يقول: «... ما زال الأذانُ يرتفعُ في مآذن المساجد، فيدعو المطران شارعه للصلاة. وما زال شارع الراهبات ملء اسمه ومدرسته، يستقبل رنين النواقيس، فيوزع صداها على بنات طرابلس، من مختلف الملل»!
واستكمالاً، يُروى أن الأديب المهجري حبيب مسعود (ابن بشري) مرّ في العام 1948 في منطقة القبة (مختلطة دينياً)، فسمع نواقيس القبة تنشر نعي أحد وجهائها المسلمين، فهتف، كما أرخميدس: وجدتها، وجدتها!... وجدتُ ما كنتُ أتمناهُ. هذه نواقيس النصارى، تقرع حزناً على محمدي، وتشارك المسلمين في رُزئهم، وتنعى لمعاشر النصارى رجلاً صالحاً عبد الإله ذاته الذي يعبدون، ولكن بأسلوب آخر!».
...وبكلمة، فإن أبناء طرابلس- كما أبناء ثغرها الميناء- هم أبناء كنائسها ومساجدها. ففي كل مسلم شيءٌ من كنيسة شرقيّة، وفي كل مسيحي شرقي شيءٌ من مسجد! واسألوا سيادة المطران جورج خضر (ابن طرابلس الأسواق الداخلية)، فلديه الخبرُ اليقين؛ واقرأوا كتابه «لو حكيتُ مسرى الطفولة»، فتتحققوا من «عبقرية المكان» التي تعتمل داخل ذلك المطران!
وعن حكايا الطرابلسيين مع معالمهم الدينية، فحدِّث ولا حرج!
يروي الياس غريِّب، الجد الأعلى لآل غريب (إحدى أعرق العائلات المسيحية في طرابلس) أنه عندما بُنيت كنيسة السيدة ومار نقولا في حارة النصارى سنة 1809، وكان قد تم تجاوز المرسوم السلطاني في البناء، توسّط الشيخ رشيد ميقاتي، أحد العلماء المسلمين، مع السلطة المحلية لتسهيل بنائها، على رُغم هذه المخالفة!
وفي حادثةٍ أكثر تعبيراً، فإن مفتي طرابلس محمد كامل الزيني، أصدر فتوى في العام 1824، بعدم جواز الصلاة في الجامع الأسعدي الذي بُني على أرضٍ غُصِبت من آل غريِّب، وأمر بإعادة العقار إلى مالكيه. وقد دعا الطرابلسيون هذا الجامع بجامع الشوم (الشؤم) لسوء طالعه، وامتنعوا عن الصلاة فيه!
ولعل أكثر ما يُعزِّز من صُدقية «خطاب الحجر» أن بعض الكنائس والمساجد لا تكتفي بالتجاور، بل إن بعضها يتكئ على جدران بعضها الآخر! واقصدوا الجامع الحميدي، في منطقة خان العسكر، واقصدوا ميناء طرابلس، كي تستمعوا ملياً إلى «خطاب الحجر!».
ويحلو لي أن أشفع «خطاب الحجر» ، بخطاب بشري، بشهادة لشاعر الفيحاء سابا زريق (توفي 1974)، وهو يُشيد بزيارة وفد كبير من المسلمين في عيد الميلاد لمطرانية الروم الأرثوذكس:
قوموا أنظروا ثَمَّ أُعجوبةٌ
تكذِّبُ في الشرقِ ذاكَ المُحالْ
فإني رأيتُ ، وبي دهشةٌُ
صليبَ المسيحِ بقلبِ الهِـلالْ
A+
A-
share
آذار 2015
أنظر أيضا
16 أيلول 2020
16 أيلول 2020
16 أيلول 2020
16 أيلول 2020
أحدث فيديو
الأكثر مشاهدة هذا الشهر
10 كانون الأول 2024 بقلم زهراء عياد، صحافية
10 كانون الأول 2024
بقلم زهراء عياد، صحافية
07 كانون الأول 2024 بقلم نايا فجلون، صحافية
07 كانون الأول 2024
بقلم نايا فجلون، صحافية
تحميل المزيد